أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - عبد الحسين شعبان - تعقيب على تعقيب باقر ابراهيم















المزيد.....



تعقيب على تعقيب باقر ابراهيم


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 1950 - 2007 / 6 / 18 - 11:43
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


في ضوء نقدي وتقريضي لكتاب شوكت خزندار :
تعقيب على تعقيب باقر ابراهيم
المعلن والمستتر والمسكوت عنه!
أين حقيقة الشيوعيين: في الوطنية أم في الشعارات؟
تمهيد وتوضيح
إذا كان الصراع والخلاف والجدل مسألة ليست جديدة بين الشيوعيين، رغم اتخاذه طابعاً سلبياً في الكثير من الاحيان عبر اتهامات وتشكيك واساءات، فإن توقير هذا الصراع وترزين الخلاف وعقلنة الجدل، يصبح ضرورة ملّحة في هذا الظرف بالذات، وبما يقتضي ادب الحوار خصوصاً لاصحاب الرأي وحاملي الفكر، وللاقلام التي تقبل النقد والنقد الذاتي والاختلاف والتنوع في الرؤى، خصوصاً للعديد من الروايات لتاريخنا الذي ظل غير مكتوب في الغالب، وحتى ما هو مكتوب اثار الكثير من الجدل والنقاش حول دقة وموضوعية ما كتب وما دوّن وما قيل، اضافة الى العديد من الشهادات التي ما زالت محكيّة أو شفوية.
كل ذلك يجعل الحوار مع الرفيق باقر ابراهيم في جزء منه تعبيراً عن الشعور بالمسؤولية، إزاء تاريخ مضى ولا يمكن استعادته، بل لا بدّ من تقييمه ، بعيداً عن التجريح أو الاساءة، ومن خلال نقد التجربة بجرأة، والحوار لا يستهدف المباراة أو تسفيه الآراء، كما أنه لا يستهدف الترضيات أو المجاملات، ، ولأن الرفيق باقر ابراهيم لا يدخل عادة في سجالات ونقاشات الاّ نادراً، ولأنه يمتاز بالجدية والمسؤولية بحكم موقعه فيما يقول، فقد وجدت في تعقيباته على ما كتبته، الرغبة في فتح حوارات وتبادل وجهات نظر، ليس فيما يتعلق بالماضي حسب، بل بأوضاع الحاضر أيضاً، علماً بأنني كنت قد اتفقت مع الرفيق باقر على حوارات مطولة، يمكن ان تجد طريقها الى النشر، فيما يتعلق بعدد من القضايا خصوصاً ما بعد كتابة مذكراته، ما قاله وما لم يقله!
آمل أن يتحقق ذلك في القريب العاجل! " فالاختلاف لا يفسدُ في الود قضية"، انطلاقا من الروابط الصداقية الشخصية والرفقة النضالية، وتبقى الحقيقة هي المطلب البعيد المنال، الذي يسعى البحث العلمي والشهادة التاريخية، خصوصاً من مصادرها المختلفة الوصول اليها دائماً!!

* * *
كتب الاخ الرفيق باقر ابراهيم عضو المكتب السياسي للحزب الشيوعي العراقي سابقاً، تعليقاً على ما كتبته تقريضاً ونقداً لكتاب الاخ شوكت خزندار الكادر الشيوعي القيادي في العمل السري. والتعليق الذي حمل عنواناً رئيساً "شيوعيو العراق: أين حقيقتهم؟" تضمن وجهة نظر بخصوص ما طرحته خلال مناقشتي لكتاب خزندار: " سفر ومحطات: الحزب الشيوعي العراقي-رؤية من الداخل"، اما العنوان الفرعي للتعليق فكان تحت صيغة استفهامية اخرى استكمالاً للعنوان الأساس: في تاريخهم النضالي المجيد .. أم في الردّة عليه؟
وكنت قد أعددت هذا النقد وأرسلته الى الأخ خزندار للاطلاع عليه عشية إرسالي النص الى مجلة المستقبل العربي، ووقعت في ورطة، عندما حسبت كلمات النص، التي زادت على الحد المقرر للنشر الذي تعتمده المجلة، مما يقتضي مراعاته، ثم تأخرت لحين توّفر الوقت لإختصارها، حيث كنت قد أرسلت دراسات وأبحاث لموضوعات ذات طبيعة راهنة لنشرها في أعداد المجلة، مما اقتضى تأجيل النشر بتقديم تلك الموضوعات، خصوصاً وان مادة النقد لا تتعلق بتاريخ معين أو بحدث راهن أو بظرف محدد، وبعد نشر المادة، وهذا ما يتم التعامل به كعرف وتقليد في النشر والصحافة، قمت بدوري بإرسالها الى بعض الاصدقاء وبعض المواقع المهتمّة بهذا الموضوع.
أتمنى ان يكون هذا الشرح أو التفسير " الطويل" كافياً لإزالة أي غموض حول "النشر المفاجئ" وعلى " نطاق واسع"، الذي أثار استغراب الرفيق باقر ابراهيم وحفّزه في الوقت نفسه على التعقيب. لعل هذا " الإرتياب" يقع عادة فيما يسمى بنظرية "المؤامرة"، اذ لا بدّ من دوافع وخفايا تقف خلف كل مسألة، ولكن من مزايا هذا "التفكير" إنه استثار الرفيق باقر ابراهيم للتعليق والتعقيب، خصوصاً وأنني تناولت بعض آرائه بما سمح به التعليق على بعض مفردات كتاب خزندار.
والمسألة الايجابية والمهمة في تعقيب الرفيق باقر ابراهيم هي محاولة فتح حوار حول الماضي والحاضر والمستقبل بالنسبة للحركة الشيوعية، وما آلت اليه أوضاعها!! علماً بأن الكتاب يتناول تجربة كادر قيادي شيوعي في الماضي، ولكن ذلك لا يمنع من ربطه بأوضاع الحاضر والمستقبل.
ولعل المقصود من الحوار هو الحقيقة أولاً وقبل كل شيء، واستخلاص الدروس والعبر، وتقديم التجربة بما لها وما عليها للاجيال القادمة، من خلال نقد بنّاء وبروح المسؤولية والشفافية والمصارحة، خصوصاً وأن الكثير من القضايا في تاريخنا ما زال مسكوتاً عنها أو انها لم تبحث على نحو كاف، وهنا تكمن أهمية التجربة الذاتية والشهادات المتنوعة وبخاصة من قلب الحدث، بعد أن إنحسر الكثير من غبار المعارك السابقة.
القضية الاولى التي استثارت الرفيق باقر ابراهيم هي: علاقة الحزب الشيوعي أو بعض قياداته وكوادره بجهاز أمن الدولة الـ KGB والأجهزة الأمنية الاشتراكية. أما القضية الثانية فهي تتعلق بالاتفاقات السرّية عشية إبرام ميثاق الجبهة الوطنية والقومية التقدمية عام 1973 بين الحزب الشيوعي وحزب البعث، وعمّا أشيع عن إستثناء أعضاء قيادة الحزب الشيوعي من الملاحقة وحماية حياتهم والحفاظ عليها خلال فترة استمرار الجبهة. ومن خلال هذين العنوانين حاول ان يناقش قضايا اخرى لا تقّل اهمية عنهما.
وقد ناقش الرفيق باقر ابراهيم القضية الثانية قبل القضية الاولى، وأحاول هنا اعتماد التسلسل الذي اختاره:
اولاً- الاتفاقات السرية بين الحزب الشيوعي وحزب البعث

1- العلاقة الملتبسة ومنطقة الفراغ

كمدخل لتعقيبي، أود أولاً أن اؤكد ان مناقشتي إستندت الى ما ورد في الكتاب وهو ما أثار عندي أسئلة قديمة - جديدة، وإن كانت لدّي وجهات نظر خاصة حول القراءة الانتقادية الارتجاعية لتاريخ الحركة الشيوعية في العراق، وبالتحديد فإن منطقة فراغ مهمة كانت مقفلة لسنوات، وهي أشبه بالمناطق المحظورة التي لا يمكن دخولها، واذا بها تنفتح وتصبح مادة للمناقشة الهادئة بعيداً عن لغة الاتهامات والتخوين، التي هي من بقايا تراث الحرب الباردة، إضافة الى الاساليب المتبّعة في العمل السري وفي الاحزاب والقوى ذات الطبيعة الشمولية، بل هي من أمراض مرحلة تاريخية كاملة، ما زالت بقاياها وبيوضها تفقس هنا وهناك متناسية ان ذلك الزمن قد ولّى ولا يمكن إستعادته بما له وما عليه!!
وثانياً وبهدف المحاكمة الموضوعية ذات الأبعاد السياسية، أعتقد أن أمراً طبيعياً أن يتم إستثناء أعضاء القيادة من الملاحقة، اذ كيف يتم الاتفاق على ابرام ميثاق الجبهة الوطنية في حين تستمر الملاحقة وخصوصاً لأعضاء القيادة، ولهذا كان لا بدّ من تأمين الحدّ الأدنى للثقة المتبادلة بإيقاف الملاحقة. صحيح ان بعض القياديين الشيوعيين استثمر ذلك لمصالح شخصية او للحصول على امتيازات او وظائف أو غير ذلك، لكن المسألة موضوعياً كان لا بدّ من توفرها كجزء من استمرار العلاقات، التي كان الطرفان يرغبان فيها وبخاصة قياداتهما، اللتان كان لكل منهما حسابات خاصة، ناهيكم عن قواعدهما ولكن من منظور مختلف أحياناً.
وأعتقد إن الأمر لا يثير حساسية الاّ اذا كان بمعنى الإتفاق على " صفقة" سياسية من وراء ظهر القاعدة الحزبية، التي ظلّت تعاني الرصد والمضايقات والملاحقات فيما بعد، خصوصاً بوجود إحتكاكات ومنافسات يومية أحيانا في مواقع العمل والدراسة والمنظمات المهنية والعلاقة بالجمهور وأحيانا بوجود حساسيات كثيرة وتراكمات سلبية تاريخية لعلاقة الطرفين، وذكريات مؤلمة.
بعد 17 تموز (يوليو) 1968 وعندما كانت العلاقة الاولى قبل قيام الجبهة الوطنية قد بدأت، كان هناك نوع من " الحماية" المعنوية لفريق التفاوض، رغم انه جرى إخلال بذلك خلال الملاحقات التي حصلت للفترة بين عام 1968، والتي تصاعدت في العام 1970، حيث إختطف رئيس الوفد المفاوض في انتخابات نقابة المعلمين (عن القائمة المهنية) الكادر القيادي الشيوعي محمد الخضري في آذار (مارس) 1970 بُعيد اعلان بيان 11 آذار (مارس)، وألقي في اليوم التالي قرب مدينة بلد على قارعة الطريق وجسده مطرز بـ 22 اطلاقة وعليه آثار التعذيب في ليلة 20-21 آذار (مارس)، وكذلك عندما اعتقل عضو الوفد الطلابي المفاوض في 13 ايار (مايو) 1970 الشخصية الطلابية المعروفة لؤي أبو التمن في قصر النهاية وتعرّض للتعذيب ، واضطر البعض الى مغادرة العراق بقرارات قيادية من العاملين في جهاز العلاقات او المنظمات المهنية او غيرها من الكوادر القيادية. وكان ستار خضير عضو اللجنة المركزية قد اغتيل عام 1969 وعبد الامير سعيد (عضو قيادة منطقة) قد اختطف وإختفى قسرياً وقيادات وسطية اخرى عام 1969، ناهيكم عن الحملة ضد الشيوعيين من فريق القيادة المركزية حيث قتل العديد منهم تحت التعذيب في قصر النهاية، بينهم أحمد محمود الحلاّق ومتي هندو وشعبان كريم وسامي محمد علي وصالح العسكري وآخرين.
* * *

أتذكر بعض الأحداث التي لها دلالات فيما يتعلق بموضوع بحثنا والعلاقة بين الشيوعيين والبعثيين، حيث كنت رئيساً لوفدين مفاوضين مع الحزب الحاكم، أحدهما في قطاع الطلبة والآخر في الجمعية العراقية للعلوم السياسية والتي أدغمت بـ" الحقوقيين" لاحقاً، وكيف كان الأمر في غاية الحساسية، فإضافة الى حركتنا العلنية أو شبه العلنية، بما فيها إرسال برقية دعم للحل السلمي للقضية الكردية بأسمائنا الشخصية وزياراتنا مقرات الصحف الرسمية والإذاعة والتلفزيون لتأكيد مواقفنا وحمل عرائض بإسم جماهير بغداد (نشرتها صحيفة النور في حينها وصحف أخرى) كان علينا الالتزام بشروط العمل السري.
وكان حتى بعض اصدقائنا من البعثيين محرجين لما يحصل لنا أحياناً، ويوّدون لو وّفروا لنا حماية مناسبة، وحصل الأمر في أحد اللقاءات الاولى في شارع أبو نواس (مقهى رعد)1969، حين داهمتنا مفرزة أمنّية مصوّبةً المسدسات الى رؤوسنا واضعةً يدها على الطاولات والأوراق كمستمسكات جرمية، ونحن نناقش بياناً كنّا قد أصدرناه ينتقد الحكومة، ولولا وجود من يحمل هوية "مجاز بحمل السلاح من مجلس قيادة الثورة" والتعرف على طبيعة اللقاء، لكنّا قد ذهبنا الى المعتقل على أقل تقدير، وذلك بسبب رفضنا في البداية الذهاب الى المقرّات الرسمية للمنظمات المهنية الحكومية، مثلما حصل الامر مع الرفاق حسين سلطان(أبو علي) ومهدي عبد الكريم(أبو كسرى) وبهاء الدين نوري(أبو سلام) وآخرين عندما اعتقلوا في مدينة الثورة حيث كانوا يغادرون اجتماعاً قد انتهى للجنة منطقة بغداد واقتيدوا الى الامن العام، وبعد تدخلات اطلق سراحهم.
أعتقد ان ما طرحه خزندار من وجود اتفاقات هو أمر طبيعي بما فيها استثناء بيوت اعضاء القيادة من التفتيش كدليل على الثقة المفترضة وليس كصفقة سرية كما يذهب البعض، ومثل هذه الاتفاقات تأخذ شكل اتفاقيات "جنتلمان" وفي الغالب هي تعهدات شفاهية، وهنا لا أناقش موضوع الوثيقة التي نقل مفرداتها الاخ خزندار، بل أتحدث عن مسألة ذات دلالة سياسية، وهو ما اكدّه لي الرفيق الأخ عامر عبدالله، ( وأعتقد انه أحد المراجع المهمة على هذا الصعيد وقد دوّنت منه الكثير من المعلومات، التي سبق لي الاشارة اليها في كتابات مختلفة سواءاً في حياته أو بعد وفاته).
بمعنى كيف يمكن اللقاء والثقة منعدمة الى هذا الحد بين الطرفين خصوصاً عدم تأمين حماية للمتفاوضين، وهي واجب على الحكومة والحزب الحاكم؟ وعندما استوزر عامر عبدالله سأله الرئيس الأسبق أحمد حسن البكر بعد اول لقاء رسمي، عن رقم تلفونه فأجابه ليس لديه تلفون لأنه كان يعمل في إطار العمل السري، فأمر البكر حينها بنصب تلفون سريع وعاجل له لتأمين الاتصال.
إن المشاركة والتعاون والعمل المشترك تقتضي وجود تفاهمات واتفاقات وضمانات ولو بحدّها الادنى لعدم التعرّض، وهو أمر منطقي على كل حال وليس مدعاةً للتشكيك أو للإرتياب، خصوصاً إذا كان الأمر خاضعاً للرقابة والتدقيق، لكن ذلك لا يعني الحصانة الكاملة، كما لا يعني منع محاولة الحكومة وأجهزة أمنها وحزبها الحاكم من التأثير على بعض القياديين وإغرائهم وربما إختراقهم، ناهيكم عن ضعف البعض ممن حاولوا التواؤم مع سياسات الحكم لأسباب مصلحية أو للمهادنة أو للحصول على إمتيازات، أو لضعف الحصانة الفكرية، وإتضح الآمر عند حدوث احتكاكات وممارسة ضغوط أو التعرض للإعتقال.
لعل الإدمان على العمل السري يثير أحياناً نوعاً من السلوك الغريب وغير المفهوم، ناهيكم عن انه لا يبعث على الثقة بالحليف أو بالنفس أحياناً، وهذا الامر ينطبق على من وصل الى السلطة او من كان في المعارضة ويبحث عن اطار للتحالف، فمثلاً كان قيادياً مثل عمر علي الشيخ عضو المكتب السياسي سابقاً قد سافر الى بلغراد لتمثيل الحزب الشيوعي في مؤتمر عصبة الشيوعيين اليوغسلاف، وكان ممثل حزب البعث آنذاك زيد حيدر عضو القيادة القومية متوجهاً الى المؤتمر نفسه، وفي صالة الشرف حاول زيد حيدر التعرف على عمر علي الشيخ، لكن الأخير حاول الزوغان منه أو التهرب من ملاقاته، علماً بأنهما يركبان في طائرة واحدة ويتوجهان الى المؤتمر نفسه، وهذا ما جعل زيد حيدر يعلّق تعليقاً له أكثر من دلالة بالقول: الآن عرفت لماذا لم يستلم الحزب الشيوعي السلطة؟ في محاولة لغمز قيادته، التي كانت على هذا المستوى من السلوك والتفكير!
وهذا " النقد" لا يتعلق بالرفيق عمر علي الشيخ " ابو فاروق" بل بمواصفات العمل السري وعلاقة ذلك بالآخر خصوصاً وانه " يتمظهر" على نحو سلوك اجتماعي. وهكذا فإنه ينعكس على طريقة التفكير ونمط العلاقات، التي ظلّت تتحكم بسلوك الكثيرين، خصوصاً تحاشي الاحتكاك بالناس ومحاولات الاختفاء الطويلة عن الانظار وغير ذلك، مما يترك بصماته " موضوعياً " على العلاقات بالمحيط الخارجي.
* * *
لكن إنفراط عقد الجبهة الوطنية في أواخر العام 1978-1979 وإغلاق صحيفة طريق الشعب(أيار/مايو 1979)، خصوصاً بتصعيد الحملة الإرهابية القمعية ضد الحزب الشيوعي وأطراف سياسية أخرى، دفع الأمور باتجاه التحلل من الالتزامات والاتفاقات من الطرفين وبخاصة من الطرف الحكومي المسؤول الاساسي على انفراط عقد التحالف، وتحت هذا العنوان تعرضت عايدة ياسين الى الاعتقال حيث اختفت قسرياً واختفى كل أثر لها منذ تموز (يوليو) 1980، وبالمناسبة فإن مصطلح الاختفاء القسري هو مصطلح قانوني تستخدمه الامم المتحدة، على الحالات المماثلة خصوصاً اذا لم يتم التعرف بصورة دقيقة على الجهة والوسيلة التي تم فيها الاختفاء (كمصطلح قانوني) أو الاختطاف أو الاعتقال (كمصطلحات سياسية). وكان قد صدر لي قبل اكثر من عشر سنوات كتاب بعنوان : الاختفاء القسري في القانون الدولي: الكيخيا نموذجاً ( عن اختفاء الصديق منصور الكيخيا وزير خارجية ليبيا الاسبق من القاهرة، كانون الاول / ديسمبر 1993 حيث كنّا نحضر اجتماعاً مع كوكبة من أبرز مناضلي حقوق الانسان في الوطن العربي).
بالمقابل كان البعض من الذين عملوا في ظروف العمل السري من استحلى أو استطيب ظروف العمل العلني، فبالغ في الرغبة بالظهور، وفي العلاقة مع الحزب الحليف، لكن بعضهم بعد انفضاض التحالف، عاد ليلقي اللوم على بعض القياديين بدون وجه حق ومنهم باقر ابراهيم، الذي ظل منسجماً مع اطروحاته السابقة ولم يتنكّر لها كما فعل البعض ممن انقلبوا على مواقفهم بمبالغات وبهلوانيات أحياناً، حتى وإن كانت السياسة السابقة بحاجة الى مراجعة ونقد شديد وبالأخص فشلها وانسداد آفاقها، اذ لم يعد التشبث بالماضي أو التغنّي به أو الحلم باستعادته ممكناً، ولعل البعض بالغ بالمقلوب حين قرر التوّجه نحو الضفة الآخرى بحجة فشل السياسة " اليسارية" الثوروية المزايدة، فنقم على الحزب وحاول تسويد صورته، في حين خفف وبرر ومن ثم روّج لسياسات الحكم وممارساته، وتلك احدى مفارقات التطرف بوجهيه!!
وإذا كان "الثبات" حسنة تسجل لصالح الرفيق باقر ابراهيم، لكن "الثبات" على المواقف أحياناً ودون تجديدها، تبعاً لتغيّر الظروف وطبقاً لتبدّل الاحوال، يعني فيما يعنيه العيش في الماضي أو عدم رؤية الجديد من المتغيّرات.. ولعل هناك مثلاً يقول: الخط الصحيح في التصحيح دائماً، فحتى الثوابت والاولويات تتغيّر تبعاً للظروف وبما يخدم المبادئ والاهداف، خصوصاً اذا إتسّمت بحرص وشعور عال بالمسؤولية وصدقية في الاختيار، حتى وان كان مثل هذا الاختيار خاطئاً أحياناً، أليست السياسة في إحدى تجلياتها اجتهادات وتجارب وصراع واتفاق مصالح، وهكذا كانت على مرّ التاريخ!؟
ومثلما حصل لعايدة ياسين فان الامر ينطبق في التعامل مع عدد من القياديين لاحقاً، فقد اعتقل محمد جواد طعمة ( مرشح اللجنة المركزية من المنطقة الجنوبية- البصرة) أكثر من مرّة وأطلق سراحه بتعهدات كما قيل من بعض رفاقه، ثم اعتقل " واختفى أثره". أي أنه اغتيل غدراً ودون وجه حق وبلا تهمة أو محاكمة.اما بالنسبة لمحمد حسن مبارك ( أبو هشام) مرشح اللجنة المركزية كذلك، فقد انقطعت أخباره على الأقل منذ مطلع الثمانينات، وطرد من القيادة والحزب بعد العام 1984 وصاحب " طرده" التعسفي حملة للتشكيك من جانب القيادة عشية المؤتمر الرابع، ولم يظهر له أي أثر وليس لأحد معلومات عنه، ولأول مرة أسمع انه " إلتقى بقادة الانتفاضة في النجف ونصحهم بالكف عن الامور التي تؤذي الناس" ... " وانه توفي في عام 2001".
ومثل هذه المعلومات بحاجة الى توثيق، خصوصاً فترة الاختفاء وما رافقها وهل كان لديه صلة بالحزب أو ببعض أجنحته أم لا؟ ومن هم الذين إلتقاهم، فلعل الامر لا يتعلق بإسقاط الرغبات والمواقف التي هي أقرب الى ما يتبنّاه او يتمنّاه باقر ابراهيم، والاّ لماذا لم يشارك معهم في قيادة الانتفاضة مثلاً؟ إنني أضع ذلك كتساؤلات!!؟ وحتى خلال زياراتي الى العراق (بعد الاحتلال 2003) بما فيها زيارات النجف، حاولت أن أسأل عنه، فلم أسمع من أحد أية معلومات سوى انه توفي منذ سنوات. وأود أن أشير الى أننا عندما نتذكر الرفيق ابو هشام، فإنما بالاعتزاز والتقدير وليس بهدف الاساءة أو النيل منه، لكن ذلك بحاجة الى توثيق وتدقيق فالحقيقة هي الأهم دائماً، والأمر يشمل بقية الرفاق الذين اغتيلوا غدراً وخارج نطاق القانون ولم يعد أحد يذكرهم.
اما " الحديث باعتزاز عن مصير كوادر قيادية مرموقة ومنهم قادة بمصاف أعضاء اللجنة المركزية، ومارسوا قيادة الحزب السرية (مع الرفيق أبو خولة- باقر ابراهيم) مثل د. صباح الدرة ود. صفاء الحافظ وغيرهم كثيرون " حيث يغمز للباحث بأنهما: "ربما أخلاّ أيضاً بالاتفاق السري" كما كان يريدني باقر ابراهيم أن أقول، ثم باللاشعور يقول " كان يجب الحديث باعتزاز عن مصير كوادر قيادية..."، وهنا بودي أن أقول فليس من باب التبجح أو الادعاء انني كنت طيلة السنوات الـ 25 الماضية وبمناسبة أو بدونها أذكر في كتابات وكتب وأحاديث تلفزيونية واذاعية ومقابلات صحفية ومقالات ودراسات وأمام العديد من المنظمات العربية والاقليمية والدولية، التي دعت لعدد من المرّات الى إجلاء مصيرهما وبقية المختفين قسرياً، وحدث الامر لعشرات المرات وعلى نطاق عربي وعالمي، والمواد المنشورة موجودة ومتوفرة لمن لم يطلّع عليها، ويسعدني وبكل تواضع أن أقول أن الاعزاء صباح الدرة وصفاء الحافظ وعايدة ياسين وآخرين كانوا في دائرة الضوء وليسوا في دائرة النسيان(ربما كان هذا الجهد الفردي أكثر من جميع الذين تحدثوا عنهم مجتمعين).
لكن اختفاءهما قسرياً أي (الدرّة والحافظ) وبخاصة بعد اطلاق سراحهما، وكما قيل بعد محاولات هروبهما بجوازات سفر مزّورة الى الخارج وإلقاء القبض على المراسل، الذي عاد من بيروت على الحدود ومعه رسالة ملتبسة أو ملغومة تطلب منهما الاتصال بجهة سياسية محكوم على أعضائها بالاعدام وأقصد بها" حزب الدعوة"، لتسهيل مهمة الهروب، قادهما الى حتفهما، بعد إختفاء أثرهما قسريا منذ شباط (فبراير) 1980. وهذه إحدى الروايات بخصوص إختفائها(وهي أيضا بحاجة الى تدقيق) وكان الرفيق خالد السلام (أبو أنيس) كان قد نشر مادة في صحيفة المنبر (بيروت) بهذا المعنى. وبهذه المناسبة فإن الرفيق شوكت خزندار مشكوراً حفّز ذاكرتنا، بإقتحامه ميداناً ربما كان فيه الكثير من الألغام وما يزال بحاجة الى بحث هادئ وموضوعي بعيداً عن الانفعال والاتهامات المسبقة.

2- المساعدات المالية للشيوعيين
اما حول الراتب الشهري لقيادة الحزب الشيوعي من حزب البعث أيام الجبهة الوطنية، فإن الأخ شوكت خزندار هو الذي أثار هذا الموضوع وحاول ان يدعمه بالتفاصيل، ولست ممن يقولون بذلك، وكنت قد نقلت رأي الرفيق باقر ابراهيم وتساءلت فيما اذا كان أحد لديه معلومة تؤكد أو تنفي ذلك!؟ ومهما كان الأمر فلكتاب خزندار أولوية طرح هذا الموضوع المهم الذي ظلّ مسكوتاً عنه، وبالتالي هذه محاولة لتناول الموضوع وتوثيقه، من زاوية علاقته بالسياسة وليس من زاوية الاتهام او إثارة الشكوك، والمسألة لا تتعلق بالراتب الشهري (المقصود لدعم اعلام الحزب الشيوعي) بل بكيفية ادارة العلاقات المالية والتحكّم بالمال العام وعلاقة ذلك بالسياسة وبالصراع الداخلي أحيانا.
تضيق الصدور أحياناً عندما يُقال ان الحزب الشيوعي أو الحركة الشيوعية العربية كانت تتلقى مساعدات مالية ومعنوية من الاتحاد السوفييتي والحركة الشيوعية في الدول الاشتراكية وبعض الجهات الرسمية وغير الرسمية القريبة. أليس الأمر طبيعياً فلمن تلتجئ هذه الحركات؟ الاّ اذا كان المعنى يُقصد منه التبعية السياسية أو الاستخدام الامني فإن الامر سيكون مختلفاً!!
فمثلما كانت فروع البعث العراقي تتلقى مساعدات مالية من بغداد، وفروع البعث السوري تتلقى المساعدات من دمشق، كما إن مجموعات المعارضة العراقية في سوريا كانت تتلقى مساعدات مالية شهرية من سورية، ما زال بعضها رغم انتقاله الى العراق ومشاركته في العملية السياسية يحصل عليها، فالامر الإعتيادي أن تتلقى قيادة الحزب الشيوعي والحركة الشيوعية مساعدات من موسكو او عواصم اشتراكية اخرى او من بعض الحلفاء المحليين او الاقليميين، وليس من الأعداء مثلاً!
فالتحالف البعثي- الشيوعي 1973-1979 يمكن أن يكون مبرراً في أن يساعد الحزب الحاكم حزباً حليفاً، هذا من الناحية النظرية والمبدئية السياسية، اما في الواقع العلمي فان خزندار يؤكد ذلك ويدّعي أنه مطلع مباشرة على الشيكات التي كان يجلبها عامر عبدالله الى قيادة الحزب وهيئته المالية حيث كان أسعد خضر (أبو نجاح) يستلمها شهرياً وبعد حوارات وإستفسارات مع الرفيق أبو جلال (خزندار) كان يؤكد مثل هذه المعلومات وعندما أخبرته بأن الرفيق أبو خولة ينفي ذلك كان تفسيره، لعل الكثير من القضايا لم يكن لديه معلومات عنها أو ان المتنفذين لا يطلعونه عليها، وأقول هنا مرة أخرى أنني لا استطيع تصديق أو تكذيب هذه المعلومات، رغم انني أخالف وجهة النظر التشكيكية، علماً بأنها لو حصلت فأنا أضعها في خانة سياسية وليس في إطار شراء الذمم أو احتواء المواقف، الاّ اذا كانت سرّية وعبر صفقات خاصة.
لقد ناقشت خزندار في " حديقته السوداء" محاولاً إجلاء الحقيقة وتلك سمة البحث العلمي، بعيداً عن الاتهامات أو الانفعالات أو ردود الفعل إزاء المعلومة، حتى وإن كانت خاطئة وليس إسقاط الارادة على الواقع، لكن الأمر لا يخلو من الحساسية، تلك التي منعت الرفيق باقر ابراهيم من قراءة النص بهدوء وموضوعية، فما أثرته من شكوك فيما كتبه خزندار، اعتبره باقر ابراهيم كأنه "ترويج" أو نص عائد لي، فوقع في الاستنتاج والحكم الخاطئ مرتين ، الاولى: عندما قرأ النص بطريقة مخطوءة والثانية: عندما نسب الأمر لي، في حين انني بمعرض محاججتي لخزندار قلت: بماذا ستنفع الناس مثل تلك الصورة المشوشة (أي التي يكتبها خزندار)، الملتبسة المثيرة للشكوك (والتي كما يعرضها المؤلف وأضع تحتها خطين) تشكّل المشهد الداخلي للحزب وبخاصة قيادته؟!
وهذا تساؤل مصحوب بالشك وبالاستنكار والأكثر من ذلك ذهبت بعيداً عندما قلت: أكان خزندار سيكتب هذه المسيرة بهذه المرارة والحنق ( وهي ليس كذلك ) وربما الى حدود الكراهية أحياناً، لو لم يتعرّض الى التنكيل والاذلال والشعور بالخيبة؟"
وقد عرفت الكثير ممن انقلبوا باتجاهات معاكسة بسبب سوء المعاملة والشعور بالاضطهاد او بالظلم والحيف أو الاهمال أحياناً، وهذه المسألة لا تتعلق بالحزب الشيوعي حسب وتتجاوزه لأبعاد انسانية، في العمل والصداقة والعائلة أحياناً، فالشعور بالاضطهاد يوّلد ردود فعل انسانية قاسية أحياناً. ومثلما هو الأمر موجود في الحزب الشيوعي فإنه ظاهرة سياسية واجتماعية ووظيفية عامة، حتى ان حزب البعث وحركات قومية واسلامية في العالم العربي وخارجه واحزاب شمولية اخرى وبخاصة في ظروف العمل السري او امتيازات السلطة دفعت اعداداً غفيرة وتحت ظروف مختلفة لمغادرة مواقعها وهي حانقة ناقمة على ماضيها منددة بحاضرها.

3- قراءة حادة وجارحة

اعتبرتُ قراءة خزندار لتاريخ الحزب الشيوعي حادة ومتشددة بل جارحة لكن باقر ابراهيم اعتبر هذه القراءة موازية لقراءة خزندار ولا أدري لماذا؟ ربما يريد أن يتميّز بإمساكه بحلقة النقد والدفاع (التخوين والتمجيد) عن الحزب الشيوعي في آن، لكنه سيبدو كمن يجلس على مقعدين أو يركب حصانين في الآن ذاته!؟ ولكن أيوجد أكثر من هذا التعبير الفصيح، الذي وصفت به اطروحات خزندار حين اعتبرتها حادة ومتشددة بل وجارحة لفحص درجة النقد؟ مع تقديري لوجهة نظر خزندار والضوء الذي حاول تسليطه في طرح اشكالية الحزب الداخلية، التي كانت اقرب الى حكايات وشهادات بعضها مرتبك وغير مدقق وربما يثير شكوكاً بحاجة الى شهادات واضاءات اخرى، في حين كانت في الكثير من الاحيان تفتقد الى منهجية علمية تتعلق بالامراض التنظيمية والمستوطنة.
واستناداً الى قراءتي ونقدي لخزندار توقفت عند استنتاج مهم ومثير واجهت القارئ فيه، يتعلق بعد هذا "الخراب" الذي قدّمه كتاب خزندار! وحتى لو إعتبره حديقة ولكنها سوداء، بل هي أشبه بالمقبرة المليئة بالازهار الميتة، وفيها ينعب البوم ويعّم الظلام أركانها وزواياها، (وذلك من خلال حيثيات خزندار وليس وجهة نظري) لكنه بعد كل تلك القراءة السوداوية الكئيبة يريد العودة الى قيادة فهد والى الخط اللينيني، ولو بعد خمسة عقود من الاخطاء والعيوب والمثالب بل والخطايا والممارسات والارتكابات والآثام!
نعم يريد خزندار العودة الى " التراث" ولكن السؤال المنطقي الذي يثور بإلحاح: أي تراث وماذا تبّقى بعد تلك الصورة الشوهاء!؟ ولعل جوابه هو تراث فهد! ولكن حتى هذا التراث (تراث فهد) عليه الكثير من الملاحظات والانتقادات، كما تمت الاشارة الى ذلك!وهو ما يمكن اخضاعه لسياقه التاريخي، وليس باعتباره تعاليم سرمدية قابلة لكل زمان ومكان، خصوصاً في ظل الثقافة الجدانوفية التسلطية والسياسة الستالينية الالغائية التي كانت سائدة.
اعتقد أنني هنا ادافع عن الحزب الشيوعي والحركة الشيوعية وليس عن أخطائهما كما يفعل البعض، فإذا كان رفيقاً مثل (خزندار) او غيره يقرّ بكل تلك الاخطاء والممارسات والتخبطات القديمة، فلماذا يريد العودة الى الحزب ويحلم بتراثه الذي جعل منه تراكماً للاخطاء والخطايا والحياة الداخلية المزدحمة بالمؤامرات والدسائس، مع أنه يمجّد تراث فهد الذي لم يعشه أو يتعرف عليه عن كثب! ومن حقه أن يحلم بالعودة اليه!
للأسف أقول ان البعض يعتبر موقعه في القيادة وكأن التاريخ ملكه او ان فترة خلافه (لأسباب مختلفة) مع قيادة الحزب، نهاية للحزب او للحركة الشيوعية، فمثلا يعقوب قوجمان يعتبر التاريخ قد توقف عند عام 1956، عندما تم ادانة سياسة ستالين وعبادة الفرد في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفييتي، وما بعد هذا التاريخ عبارة عن انحراف وتحريف وتشويه وابتعاد عن المبادئ، وباقر ابراهيم يعتبر مجرد خروجه من القيادة أو "أخراجه" وكأن الحزب كان سائر في اتجاه وذهب في الاتجاه الآخر، ولكن الحزب كان كما هو دائماً واستمّر هكذا وإنْ تصاعدت في ربع القرن الماضي نزعات الاستئصال والانفراد والتحكّم، ولو قرأنا تاريخ الانشقاقات والتصفيات الداخلية على مدى تاريخ الحزب لتوصلنا الى استنتاجات ليست بعيدة عن هذا المنطق، منذ أيام فهد وحتى الوقت الحاضر. ومع ذلك ظل الحزب الشيوعي جزءاً من تاريخ العراق المعاصر، لا يمكن بأي شكل من الاشكال تجاهله او التجاوز عليه، رغم كل أخطائه ونواقصه وثغراته وعيوبه.
وعودة على النقل والاقتباس فالعهدة دائماً على الكاتب وأمانته، فقد يتضمن كتاباً عن الذكريات والمذكرات، إقتباسات أو نصوص لأشخاص او رفاق غابوا عن دنيانا، ومعظمهم من المتوفين، لكن الأمر لا يضعف الحقيقة اذا كان للكاتب صدقية وأمانة والعكس صحيح، قد يكون الاستشهاد برفاق أو أشخاص ما زالوا على قيد الحياة، لكنهم قد لا يردّون او لا يقرأون أو غير معنيّين، وان كتبوا فلا يغيّر الامر من الحقيقة، اذا شوّهوا الحقائق او حاولوا تغيير مساراتها ولعل في الجدل والاخذ والرد بين الرفيقين خزندار وابراهيم حول " وقائع" قريبة خير دليل على ذلك، الاول يؤكدها والثاني ينفيها نفياً قاطعاً، وكلاهما حي يرزق، اطال الله في عمرهما.
ومن الطرائف المثيرة ان احد الرفاق القياديين استشهد أكثر من 6 مرات بالرفيق ثابت حبيب العاني، لتدعيم وجهة نظره، وكان العاني يجلس بجانبي وحلف لي أغلظ الايمان، ان بعض الاستشهادات ليس صحيحاً والاخرى مجرد ادعاءات لتبرير مواقف، فضلاً ان بعضها مختلقة، وكان مجرد حشر اسمه وهو جالس يراد له اعطاء الصدقية للمتحدث، ولكنني قلت له ألا تدافع عن الحقيقة حين تجلي الصورة؟ فعلّق بالقول: الامر مجرد حوادث ولا داعي للدخول في مماحكات لاعتبارات كثيرة.
وكان هاني الفكيكي قد استشهد بالعديد من الاشخاص في مذكراته " أوكار الهزيمة" وعندما تسنى لي الاستفسار من أحد أصدقائه المقربين، أكد لي ان 80% من المرّات التي ذكره فيها لا علاقة له بالحدث، لكنه اضطر الى " السكوت" لأنه لا يريد الكلام أو الادلاء برأيه، وهكذا تصبح رواية الفكيكي هي المعتمدة لحين أن يأتي من يدحضها أو يثبت عكسها أو يرويها بطريقة مختلفة، ولذلك ومن فضائل الرفيق باقر ابراهيم انه حاول ان يقدّم رؤيته فيما يتعلق بروايات خزندار بشأن تاريخ الحزب وقيادته وبخاصة الحياة الداخلية.
وبالعودة الى المسألة المالية، كنت حريصاً على اقتباس النص بالرد من الرفيق باقر ابراهيم نفسه، الذي حاول ان يدحض ما ذكره خزندار ويعتبره مجرد " ادعاءات" يراها مخلّة بمناضلين يحترمون مكانة وكلمة النضال، ولعل الامر لا يتطلب انفعالاً فالمسألة ليست "تهمة"، فلو افترضنا جدلاً ان حزب البعث "الحليف" كما كان يسمى " بغمزٍ" حينها، كان يقدّم للحزب الشيوعي مساعدة مالية، فما العيب في ذلك اذا كانت علنية او موثقة ومن مالية الدولة مثلاً؟
قدّم لنا الفلسطينيون بمختلف تياراتهم وفصائلهم ملايين من الدولارات سواءاً منظمة التحرير الفلسطينية أو الاعلام الفلسطيني الموحد أو الصندوق القومي أو غيره من منظمات المقاومة، لكن قيادة " الحزب العتيدة" لم تتجرأ لوضعها في المكان المناسب، وجعلتها عرضة للاهواء والتحكّم الشخصي، بل وللتلاعب بمصير الرفاق، وهذا جزء من التاريخ المسكوت عنه وعلى الرفاق المطلعين عليه أن يدلوا بدلوهم وبمواقفهم في حينها. كما قدّمت، دول مثل ليبيا وسوريا واليمن الديمقراطية مساعدات مادية ومعنوية للحزب الشيوعي، وفعلت الامر ذاته مع جهات أخرى، لكنني أعود واقول هذا شيء والصفقة السياسية أو العمل لحساب أجهزة هذه البلدان شيء آخر.

4- التعويل على الآخر
عانى الحزب تاريخياً من التعويلية على الآخر، وكان لعاب بعض قيادته يسيل على المناصب، ففي فترة الزعيم عبد الكريم قاسم الاولى حاول الاصطفاف معه لدرجة التماهي رغم ان الأخير استدار بالبلاد نحو الحكم الفردي، وفي فترة الحكم العارفي كُتب الخطاب الشهير بخط آب في محاولة للتقارب من طرف واحد مع التيار الناصري و" الالتحاق" بالاتحاد الاشتراكي، وفي فترة حكم البعث كانت "الوزارة" مطلباً ولأجلها وبهدف الحفاظ على العلاقة مع السلطة، وكتمهيد "للجبهة" أقرّت قيادة الحزب بالدور القيادي المتميّز لحزب البعث في الجبهة والدولة والمجتمع، وفي حكومتي الحزبين الكرديين (سليمانية واربيل) كان الحزب "يوازي بينهما" بما فيها تلقي المساعدات، وانتقلت العدوى الى مجلس الحكم الانتقالي ومنه الى الحكومة، لدرجة ان الحزب إنضوى تحت قيادة الدكتور إياد علاوي، التي كانت قد قالت عن نفسها انها تعاونت مع 15 جهة أمنية إستخبارية خارجية.
وبغض النظر عن الاختلاف بين التحالف مع قاسم (الوطني) والحكم العارفي او العهد البعثي (رغم القسوة) وبين التحالف مع الاحتلال والقوى المتعاونة معه، فانني قصدت من ملاحظتي تلك، هو الضعف إزاء الموقف من السلطة والقوى القريبة منها، وحتى في المعارضات، لم يرغب الحزب الشيوعي أن يكون بعيداً عن مراكز القرار فاستعجل الالتحاق بـ " جوقد" الجبهة الوطنية والقومية الديمقراطية، التي تم التوقيع عليها في دمشق 14 تشرين الثاني (نوفمبر)1980 (بعد اندلاع الحرب العراقية- الايرانية)، فقد وقعّنا اتفاق ربع الساعة الاخيرة لأننا لا نريد أن نكون خارجها وأتذكر ان القوى الاخرى قررت اعلان الجبهة حتى وان لم يوّقع عليها الحزب الشيوعي، بعد مفاوضات مضنية، وقد نقلت هذا " القرار" الى قيادة الحزب، وعلمت أن اجتماعاً قد انعقد للموجودين من اعضاء المكتب السياسي في دمشق وإتخذ القرار بالتوقيع، وابلغت بذلك.
ووقع الحزب اتفاق "جود" -الجبهة الوطنية الديمقراطية في كردستان( بعد اسبوعين من التوقيع على الجبهة الاولى) وثم وقع على ميثاق طرابلس (ربيع 1983) الذي ضم 17 كياناً سياسياً ثم شارك في تأسيس لجنة العمل المشترك كانون الاول/ديسمبر 1990 أي عشية حرب قوات التحالف على العراق، وفي أواخر العام 1992 إلتحق الحزب بالمؤتمر الوطني (صلاح الدين)، وأتذكر عندما غادرت موقعي كأمين سر في المؤتمر 1993 وكتبت احتجاجاتي العلنية قبل ذلك (مذكرتي/ تموز /يوليو1993) ومن ثم تقديم استقالتي، بعد تأكدي أنني في المكان الغلط وفي الوقت الغلط وان المشروع مرتهنٌ للعنصر الخارجي، ناهيكم عن عزلته عن الشارع العراقي والعربي والاسلامي، فضلاً عن سياساته الفعلية ومواقفه المرفوضة بخصوص الحصار الدولي والعقوبات المفروضة بموجب القرارات الدولية المجحفة وغيرها بالضد من وثائقه المعلنة، والتي تتعارض مع اطروحاتي ومواقفي المكتوبة والمعلنة، في حين كان بعض رموز الحزب وبينهم الرفيق عامر عبدالله قد إلتحق بالمؤتمر وكذلك نوري عبد الرزاق الذي " تعاقد" سراً بأجر على فتح مكتب (غير معلن) في القاهرة، وكان الرفيق عبدالرزاق الصافي عضواً في مجلسه التنفيذي وغيره من القياديين يتعاطون مع المؤتمر، واستمروا حتى بعد انسحاب الحزب منه، وقد دعا الرفيق حميد مجيد موسى الامين العام د.أحمد الجلبي لإطفاء شمعة عيد ميلاد الحزب الستين في كردستان في اواخر آذار/مارس/1994.
ورغم انسحاب الحزب الشيوعي من المؤتمر الوطني مطلع العام 1995 فقد ظلّت ملاكاته تتعاطى معه علناً أو سراً ويحتسبه البعض بحكم علاقاته الكردية جزء منه. أذكر ذلك باعتباره نهجاً وليس صدفة او خطأ لدى القيادة، فقد كانت القيادة وبخاصة ما بعد العام 1958 تعوّل على الآخر رغم اختلاف وزن وثقل الحزب، ولعل هذا النقد يختلف عن الاتهامات التي يسوقها باقر ابراهيم، واذا كنا كأفراد عرضة للخطأ أيضاً، فاننا كأفراد اذا حرصنا على الحقيقة نكون أكثر قدرة على المراجعة والتصحيح وسبحان من لا يخطئ، لكن الفضيلة تقتضي الاعتراف بالخطأ بشجاعة وجرأة خصوصاً في ظرف انتقالي حيث تضبب الصورة وتتداخل ألوانها، ولكن سرعان ما يجد المرء بوصلته بحسّه الوطني وادواته المعرفية.وقد كانت قيادة الحزب الشيوعي رغم كل الملاحظات والمآخذ أكثر من أية قيادة سياسية تنتقد تاريخها ومواقفها، وإنْ كانت تلك التقييمات تأتي متأخرة وبعد خسائر فادحة، وحتى بعد " أكباش فداء" كثيرة!! ولكنها كانت تثير جدلاً ونقاشاً داخلياً وعلى المستوى الخارجي أيضاً، وسأحاول مناقشة هذا الموضوع، خصوصاً الاتهامات التي وجهها الرفيق باقر ابراهيم للقيادة الشيوعية الرسمية بالردة والخيانة...الخ.




ثانيا- العلاقة بـ KGB ( جهاز أمن الدولة السوفييتي)

1- الاجهزة والاختراقات: السياسي والأمني
لا أريد أن أكرر ما كتبته في معرض تقريضي ونقدي لكتاب الرفيق خزندار حول العلاقة بين بعض قيادي الحزب وجهاز المخابرات السوفييتي وجهاز أمن الدولة- KGB، فهذه مسألة تطيّر رد الرفيق باقر ابراهيم منها كثيراً، لكن الامر منطقي أيضاً، ففي حالات غير قليلة يحصل هناك نوع من التماهي بين الاممي والوطني بطريقة مغلوطة، بحيث تتغلب مصالح الامة الكبرى ومصالح الشقيق الاكبر على حساب الوطني، ولا يتعلق الامر بالسياسات حسب، بل بالتحكم أحيانا بالمسار الداخلي، وكان بعض القادة يعتبر أنّ تقديم المعلومات أو تبادلها مسألة واجبة على الشيوعيين، بل ان بعض القياديين كان ينقل " تعليمات " الاشقاء الكبار بصيغة وجهات نظر وآراء بما فيها تتعلق بمواقف آخرين.
فمنذ زمن طويل كان يتم تداول مسألة تسريب محضر اجتماع براغ 1964 للجنة المركزية الى المخابرات التشيكية، ونقل خزندار ما ذكره عامر عبدالله الى زكي خيري حول استعادته عضويته في القيادة بعد موافقة " الرفاق الاشقاء السوفييت" وشخصياً أميل الى وجود تأثيرات وارتياحات، ومن الجهة الاخرى مراعاة وترضيات، حتى أن شخصا مثل نيجكن أحد الموظفين العاملين في الاجهزة الامنية السوفيتية التابعة للجنة المركزية، كان محطّ أسرار ومصدر معلومات ورسائل وتعليمات للعديد من الرفاق القياديين الذين يرتضون بذلك، "فالتدخل" كان يمرّ بأشكال مختلفة بحكم " المركز" الذي يمثله السوفييت في العلاقة مع الاحزاب الأخرى وبخاصة من الدول النامية. هكذا كانت ايضاً علاقات التنظيمات التابعة للتنظيم العراقي أو السوري، فبغداد ودمشق كان لهما اليد الطولى في ترتيب أوضاع الأخرين، بحكم مركز الثقل، ناهيكم عن " التمويل"!
* * *
أتذكر أن الأجهزة الأمنية التشيكية اتخذت قراراً بطرد مجموعة كردية كانت قد إحتجت على عمليات قصفٍ لمناطق كردية خصوصاً بعد اندلاع الاقتتال بين الحكومة والحركة الكردية عام 1974، ومن بين هؤلاء كان ازاد مصطفى خوشناو، الذي أعدم والده في الاربعينات، وبحكم مسؤوليتي كرئيس لجمعية الطلبة حاولت الدفاع عنه كنقابي باعتباره طالباً لا بدّ أن يكمل دراسته اضافة الى الآخرين، رغم عدم موافقة القيادة الحزبية، التي كانت تقف بعض الاحيان مواقف متشددة ضد البعض في حين تشجع وتساعد حالات سيئة لاعتبارات خاصة، بل ان بعض ذيولها قد فرح واستبشر مشجعاً " أجهزة الأشقاء" على طردهم لأن لهم إرتباطات وغير ذلك، وكان الأمر يتعلق بموقفهم من القصف حيث اعتصم العديد منهم في السفارة السويدية في براغ.
والاكثر من ذلك كان مثل هذا التنسيق قائماً مع السفارة العراقية، التي كان يتم التذرع بها في بعض الاجراءات، حتى أن أحد الوجوه الطلابية البارزة اتخذت عقوبة شديدة بحقه وأعيد الى العراق تحت حجج واهية منها " خبرية" وصلت الى السفارة عن حادث معين ودعا المسؤول حينها عادل حبه المنظمة الى اجتماع موسع، ليجد ذريعة " تهدد التحالف"، مهدداً كل من تسوّل له نفسه باتخاذ الاجراءات الزجرية الرادعة. وهذا ما كان يحصل في اليمن وسوريا والجزائر (الى حدود معينة) فضلاً عن البلدان الاشتراكية خلال الثمانينات، حيث تعتمد المنظمات الحزبية لتطويع جمهرة الاعضاء على أجهزة الدول الشقيقة، خصوصاً تهديدها بسحب الغطاء السياسي...الخ وقد استخدمت عمليات ابتزاز ضد مجموعة القيادة المركزية في اواخر الستينات في العديد من البلدان الاشتراكية.
والأكثر من ذلك فقد سعت هذه الاوساط الى إنجاب وليد مشوّه بالتعاون مع الحزب الحاكم والسفارة العراقية آنذاك، لتنظيم اجتماع لجمعية الطلبة الاكراد بديلاً عن الجمعية الاصلية، لدرجة اعتبر الفنان المعروف كوكب حمزة وسميرة البياتي وغيرهما من " الطلبة الأكراد" كأعضاء حضروا المؤتمر، ولم يكن ذلك بمعزل عن الأجهزة الأمنية التشيكية رغم اعتراض وعدم ارتياح العديد من الشيوعيين.
بعد سنوات وفي مطلع الثمانينات اتصل بي ازاد خوشناو في دمشق، ثم إلتقينا في بيت الجواهري الكبير، وطرحتُ المسألة على الرفيق عزيز محمد، الذي قام بمحاولات عديدة، لإعادة ازاد خوشناو الى مقاعد الدراسة لكنها كلّها لم تفلح كما أخبرني عزيز محمد (أبو سعود)، لأن " الاشقاء" يرفضون ذلك، معتبرين اعادته خطراً على الأمن القومي!! علماً بأنه كان في الصف المنتهي لكلية الطب (براتسلافا) وكذلك زوجته هيبت، عندما رحّلا الى هولندا حيث اختارا مكاناً للجوء. وعرفت ان محاولات وترشيحات لم تكن بعيدة عن بعض رفاقنا لأسماء الطلبة المرّحلين، مع مساومات بالعمل لصالح الاجهزة.
وحصل الأمر مع طالب آخر، عندما تم ترشيحه من قبل رفيق زكّاه امام المخابرات التشيكية للعمل معها، لكن الاخير رفض رفضاً قاطعاً وبحكم مسؤوليتي وعلاقتي الصداقية معه أخبرني بالقصة، وكانوا قد حذرّوه، وقُدِّمت له الكثير من المغريات، لكنه شدد في رفضه وإضطر بعد مضايقات ومنغّصات عديدة الى ترك تشيكوسلوفاكيا والذهاب الى بلد آخر لإتمام دراسته.
وحصل الامر كذلك مع رفيق وكادر قيادي آخر عندما فاتحه التشيك بالعمل لصالحهم، فأخبرهم انني أعمل لصالح الحزب، وما لدّي من معلومات ستكون لدى الحزب طلبوا منه التعاون ويمنحوه مقابل ذلك امتيازات كثيرة، لكنه رفض، وعندما عاد الى العراق وتعّرض للاعتقال فيما بعد وارسله الحزب الى العلاج، امتنعت السلطات الأمنية من إدخاله الى تشيكوسلوفاكيا وهو في حالة مزرية وقد حصلت تدخلات كثيرة لإتمام انجاز معاملته للعلاج.
وهناك امثلة كثيرة، ولعل بعضهم كما " سمعت" قد وافق المسؤول على عمله في الاجهزة لمساعدة " الاشقاء" كما قيل، فضلاً عن ان هناك من أرسل للعمل مع جهاز السفارة بحجة اختراقهم وتقديم معلومات، ولكن الأمر لم يكن اكثر من لعبة مسلّية لبعض البهلوانيين او المغامرين، مثلما كانت لعبة ارسال رفاق الى الداخل في الثمانينات دون تأمين مستلزمات الحد الادنى للعمل السري، وتلك إحدى المسائل المسكوت عنها حتى هذه اللحظة، لأن الكثير قد دفع حياته أو اضطر الى التنازل والانزواء بعد إلقاء القبض عليه، ولعل بعضهم لم يكن بعيداً عن إختراقات مسبقة وهناك الكثير من القصص والحكايات، التي يعرفها العديد من الرفاق وربما في مقدمتهم الرفيق باقر ابراهيم.
وبعد انهيار المنظومة الاشتراكية نشرت الكثير من الوثائق التي تتعلق بعمل عدد من الشيوعيين العراقيين والعرب في جهاز المخابرات السوفيتيية KGB والالماني والتشيكي والبلغاري والروماني والهنغاري وغيره من أجهزة الدول الاشتراكية، وعلى الاقل كان هناك تقديرات ان مسؤول المنظمة الفلانية يعمل مع " الاجهزة الشقيقة" وان عضو اللجنة القيادية الفلانية يتحدث بإسم الاجهزة الشقيقة، أو ينقل رأيها.
كما أعرف بحكم موقعي سكرتيراً للجان التنسيق العربية بعض السوريين واللبنانيين والاكراد والمصريين والسودانيين إضافة الى العراقيين وغيرهم ممن كان يعمل مع الاجهزة الاشتراكية، وأتذكر مرّة طرح أحد السودانيين على جدول أعمال اجتماع الشيوعيين العرب، حيث كنت ممثلا للحزب مسألة العلاقة المزدوجة بين الحزب المعني والجهاز، لكن الآخرين رفضوا وضع ذلك في جدول العمل وغلق الموضوع وكنت أسمع عن هذا الموضوع خلال زياراتي المتكررة الى العديد من البلدان الاشتراكية كإشراف طلابي باسم لجنة التنسيق (الهيئة المشرفة على التنظيم الطلابي خارج الوطن) أو لقاءات أو مؤتمرات ..الخ.
القول الذي ذهب اليه الرفيق باقر ابراهيم من ان منظمات الحزب الشيوعي الطلابية اتخذت موقفا حازماً بطرد أي عضو يثبت ارتباطه بتلك الاجهزة ، يثير تداعيات كثيرة وتساؤلات كبيرة وكأن باقر ابراهيم لم يكن عضواً قيادياً في الحزب ولا يعرف كيف كانت الامور تسير، فهل يستطيع أن يدلّني على حالة واحدة ومعلومة موثقة من أن المنظمة الطلابية الفلانية طردت عضواً من أعضائها لإرتباطه مع الاجهزة " الشقيقة"!! وأتساءل لماذا لم تتخذ قيادة الحزب مثل هذا القرار الخطير وتركته الى المنظمات الطلابية؟ وأقول لم يصل الى سمعي أن هذا الامر قد حدث بالفعل!؟
أستطيع القول أن الأمر لم يكن "مطروحاً " بالشكل الذي ينقله باقر ابراهيم في قيادات المنظمات الطلابية، خصوصاً اذا كان مسؤول المنظمة أحياناً أو مسؤوله مرتبطاً بالجهاز، فسوف يتم السكوت أو التواطؤ. وطرح هذه المسألة التي تناولها كتاب خزندار كتاريخ وقراءة للماضي، لا علاقة له بخلط الاوراق او ارتهانات مفضوحة وراهنة لاجهزة مخابرات اجنبية حالياً. نحن نتحدث عن تاريخ وعن وقائع ومعلومات، كل منّا يمتلك جزء منها وهي تهّمنا جميعاً. ويمكنني القول أن القيادة بقضّها وقضيضها لم تكن تتجرأ أن تحرك أحداً من العاملين في الاجهزة الاشتراكية؟ فهل بإمكان منظمة طلابية ان تفعل ذلك؟
كنت وعدد من أقراني، من بعض "المشاغبين" على المستوى الفكري والسياسي نراقب ونتنّدر أحياناً كيف يتصرف البعض بتزلّف أو تملق لبعض من يُعتقد انهم يعملون مع جهاز الدول الشقيقة حتى لو كانوا بدرجة حزبية أدنى، فقد كانت تتم مداراتهم أحياناً، خصوصاً لتمشية معاملات وتسهيل أمور، وفقاً لما يسمى نظرية " التخادم"! وأسأل الرفيق باقر ابراهيم: هل كان أحد يستطيع إبعاد أو تغيير مواقع من كان تعتبره معظم الملاكات الحزبية ممثلاً للاجهزة السورية!!
عندما اندلعت الازمة العراقية – السوفيتية حول الطلبة، لم تكن حقيقتها فقط معادلة الشهادات وقضايا أكاديمية، وانما كان بعضها يتعلق بتحرش أجهزة KGB السوفييتية ببعض الطلبة العراقيين وبعضهم من البعثيين لتوظيفهم بالعمل لصالح المخابرات السوفييتية، وهنا أقتبس من معلومات تعود الى الرفيق عامر عبدالله، عندما أبلغه الرئيس البكر، بان عليكم ان تبلغوا جماعتكم (المقصود السوفييت) أن يرفعوا ايديهم عن " ويلادنه" (أولادنا) وإستوضح الرفيق عامر ذلك وأبلغ الاشقاء "الكبار" بحساسية الحكومة العراقية إزاء أي تحرك من هذا النوع.
ولعل مدرسة موسكو فيها الكثير من الحكايات حول بعض الارتباطات، التي كان يتم تسميتها ويتم التغاضي عنها .. قد يقول باقر ابراهيم انه لم يكن يعرف وانه لا يدري، لكنني اقول ان الامر لم يكن بالامكان تحريكه أنذاك لحساسيته، وكانت الأجهزة السوفييتية والاشتراكية الاخرى غير بعيدة عن اندلاع الصراعات داخل الاحزاب الشقيقة، ناهيكم عن التدخل لايجاد حلول لها باعتبارها "مرجعية" لا يمكن التغافل عن تأثيرها، فالصراع الذي اندلع في داخل الحزب الشيوعي السوري في أواخر الستينات واوائل السبعينات، وفتواهم الشهيرة حول "الامة العربية"، التي لم تكتمل مقوماتها او انها في حالة تكوّن، أثارت الكثير من ردود الفعل، لكنه لا يوجد حزب شقيق واحد ناقش هذه الاطروحات. وقد كانت مرجعية البعض " نيجكن" وليس سوسلوف أكثر من القيادة أحياناً ويمكن أن ينسحب الامر على بعض المسؤولين في الدول الاشتراكية الاخرى. ولعل البعض كان يندفع اندفاعا غير مبرر في الحديث عن رأي " الاشقاء".
في اجتماع لتنظيمات الخارج 1972 بُعيد صدور ميثاق العمل الوطني، من جانب حزب البعث الحاكم، واعتبرناه في حينها مشروعاً صالحاً للتفاوض (أواخر العام 1971)، عبّرت عن نقد مخفف للاتحاد السوفييتي ومحاولة اقناع قيادة الحزب بضرورة إلتقاط هذه الفرصة لإبرام الجبهة الوطنية، وهو ما يتم التعبير عنه " برأي الاشقاء"، الذي يوضع كمرّجحات لاتخاذ القرار، معتبراً مسؤولية قيام الجبهة ونجاحها والضمانات التي يمكن الحصول عليها، من مسؤولياتنا وليس من مهمات الاتحاد السوفييتي، الذي يمكنه دعم توجهنا، ونحن أدرى بظروفنا. وكان الحضور على ما أتذكر يضم: مهدي الحافظ (الذي كان يتحدث باسم اللجنة المركزية ويمثل الرأي الرسمي للحزب) وحميد بخش ونوزاد نوري وكريم حسين وحميد برتو وخالد السلام وصفاء الحافظ وجوهر شاويس وسعيد سطيفان وهناء ادور بوشه والبراك (أم مازن) وخليل الجزائري وسعدون صادق وفهمي الحكاك ولا أتذكر إن كان علي حنوش حاضراً وهناك أسماء اخرى لا تسعفني الذاكرة باستحضارها.
بعد الاستراحة، ُطلب مني تقديم اعتذار أو ايضاح موقفي بشأن نقد الاتحاد السوفييتي، وكان الرفيق بخش قد كلمني خارج الاجتماع، لكنني عندما طلبت الكلام في بداية الجلسة التالية: كررت موقفي، بل شددت عليه وعلى الضمانات للديمقراطية والحريات، الأساس في بناء الثقة مع تأكيدي على أهمية التحالف، الذي هو مسؤولية عراقية، يمكن أن يدعمها " الاشقاء". وللامانة والتاريخ ورغم اختلاف المواقع حالياً لم يتدخل مهدي الحافظ، بل اعتبر الامر مجرد اجتهاد، ولا أدري ان كان بخش قد قام بمبادرته بطلب من جهة أو ارضاءاً لها باقتراح شخصي لتأمين وتأكيد مدى علوية رأي الاشقاء!!
أعتقد ان القول بوجود من يعمل لصالح الـ KGB او الاجهزة الاشتراكية أو في الدول التي عمل فيها الشيوعيون أمر طبيعي وذلك لا ينتقص من وطنية الحزب ودوره ومواقفه، ولعل ذلك جزء من عقلية ومواصفات تلك المرحلة، لكن ذلك لا يعني ان قيادة الحزب أو سياسته كانت مسخّرة بالضد من المبادئ الوطنية، التي حاولت بعض الجهات إلصاقها بالحزب الشيوعي، باعتبار ان ولاءه هو لموسكو ويستندون في ذلك الى بعض المواقف الخاطئة، التي اتخذها الحزب سواءاً إزاء القضية الفلسطينية او الوحدة العربية أو غيرها وهو ما سنأتي على مناقشته مع الرفيق باقر ابراهيم. قد يكون البعض من العاملين في جهاز الـKGB دون معرفة القيادة، ولكنني أقول مرة أخرى حتى لو علمت القيادة فإنها غير قادرة على اتخاذ قرار سلبي بشأنه، بل ان العكس هو الصحيح فقد يزداد رصيده لدى القيادة.
وحتى في بريطانيا هناك من كانت له علاقات خاصة مع جهاز المخابرات وتحت حجج مختلفة، وأعتقد أن الرفيق ثابت حبيب العاني كان قد أبدى تضايقه من ذلك في حينه، وبالمناسبة فالرفيق ثابت العاني راح ضحية تآمر دولي، فقد نقل أحد الذين يُعتقد أنهم من العاملين في جهاز المخابرات البريطاني، والذي أصبح له شأن كبير بعد الاحتلال، خبراً مفاده ان ثابت حبيب العاني يعمل " لصالحنا" وانه يتقاضى راتباً شهرياً من الحكومة العراقية منذ اعتقاله عام 1971 وحتى العام 1978، وصادف ان تم نقل الموضوع الى الرفيق عزيز محمد من قبل الرفيق عامر عبدالله، ورغم عدم استعداد الاول لتصديق مثل هذا الخبر وعودة عامر عبدالله عنه ونفيه ومحاولة إنصاف الرفيق " أبو حسان"، الاّ أن البعض استغّل الخلافات الداخلية وخصوصاً بعد انفراط عقد الجبهة الوطنية ليتمادى في حملة التشكيك المشبوهة، وخصوصاً دخول فخري كريم على الخط، حيث قاد حملة ضد العاني أدت الى طرده من المكتب السياسي وفيما بعد من اللجنة المركزية، وعُزل في كردستان، حيث تم التحقيق معه في العام 1984، فنفى بشكل مطلق تلك التلفيقات والافتراءات. وقد كتب د.مهدي الحافظ، مقالاً في صحيفة المنبر في العام 1988 ازاح فيه الستار عن هذه القضية وملابساتها التي أريد استغلالها لتصفية الحسابات وللانتقام الشخصي المصحوب بكيدية وثأر.
جدير بالذكر ان قيادة الحزب الشيوعي وكان باقر ابراهيم ضمنها آنذاك وقعت على وثيقة مع تنظيم خاص، لم تكشف عن اسمه، وعندما كنت أعمل في العلاقات في العام 1981، ُطلب مني إعطاء نسخ منها الى قيادات الاحزاب والجهات التي كانت تربطنا معها علاقات، فاعتذرت لأنني لم أكن مقتنعاً بمثل هذا الاسلوب من العمل، ناهيكم عن شكوك توفرت لدّي، اذ كيف يطلب مني نقل الوثيقة والدفاع عنها الى جهات صديقة وشقيقة، وانا لا اعرف من هي الجهة التي وقعّنا معها، وقد استفسرت من العديد من الرفاق بضمنهم أعضاء في اللجنة المركزية، وأقسم لي بعضهم أنه لا يعرف الجهة المعنية، وعندما سألوا فلم تتم إجابتهم، بل غطيّ الموضوع بطريقة غامضة بإسم السرّية والظروف الخاصة.
واتضّح لي فيما بعد أن الاجهزة البريطانية هي التي كانت وراء هذه الوثيقة، خصوصاً وان دور الطرف الآخر جاء بعد غزو القوات العراقية للكويت. لعل ذلك إحدى مفارقات العمل السري والثقة المطلقة، وأتذكر ان الرفيق طارق الدليمي (أبو زياد) وهو صديق عزيز استحلفني إذا كنت أعرف من هي الجهة التي تم التوقيع معها: هل جناح من البعث (المعارضون والخارجون) أو مجموعة من داخل الحكم كما كان التصوّر السائد، وكنت قد أجبته بالصراحة والوضوح، أنني لا أعرف وعندما سألت لم تتم اجابتي بشكل مقنع، وإنني لا أحبّذ مثل هذا الاسلوب، الذي هو أقرب الى " المخاتلة" منه الى العمل السياسي، مثلما كان رأي ان هناك خفة لدى القيادة عند توقيع جبهة جوقد ثم بعد اسبوعين عند توقيع جبهة جود، وكان لا بدّ من مراعاة الحساسيات، ناهيكم عن أننا كنّا قد خرجنا لتوّنا من تجربة مريرة وأعني بها جبهة 1973، ولذلك لم أدافع عن تكتيكاتنا الساذجة لا في حضور الاجتماعات اليتيمة مع جوقد او في اللقاءات مع عبدالله الاحمر نائب الامين العام لحزب البعث بحضور زكي خيري أو في اجتماعات مع اللواء حسن النقيب وباقر ياسين وآخرين بحضور عامر عبدالله وعزيز محمد ومهدي عبد الكريم وعبد الرزاق الصافي.
ومع ذلك يبقى هذا الكلام غير مسيء الى الحزب الشيوعي، لكنه كان من أخطائه وبشكل خاص قيادته أو المتحكمين فيها، خصوصاً قلّة معرفتها وشحّة تأهيلها النظري وتحصيلها العلمي وكذلك لظروف العمل السري والعزلة عن المجتمع أحياناً، لكن ذلك لا يمنع من القول انها تختزن تجربة نضالية وتضحيات جسيمة وتحمّلت أعباء كثيرة بما فيها السجن لمدد طويلة والاختفاء والعمل السري(المقصود القيادة السابقة)، لكن مواصفات القيادة شيء آخر، فهي تتطلب معرفة وعلماً بفئات المجتمع وطبقاته وأديانه ومذاهبه وعشائره وتاريخه وتكوينه ومزاجه ونفسيته، إضافة الى حزم وقدرة على اتخاذ القرار وتحمّل مسؤوليته، ناهيكم عن المراجعة والنقد والنقد الذاتي وغير ذلك، وهو ما لم تكن تتمتع به فضلاً عن ضعفها إزاء المركز الاممي، ولذلك عندما جرى الحديث عن الاستقلالية في الحركة الشيوعية، كان قد لاقى صدى إيجابياً عند البعض من جمهور الشيوعيين.
* * *
في عام 1973 اتخذت لجنة تنظيم الخارج قراراً بنقل الارشيف الحزبي من منظمة بريطانيا، وهو أرشيف غني منذ اوائل الخمسينات من القرن الماضي بما فيه محاضر اجتماعات اللجان المتعاقبة، وحمّل البريد في حقيبة كبيرة، وكان الرفيق د. سعيد اسطيفان هو المكلف بنقله الى براغ، ومن مطار هيثرو- لندن، اختفى البريد، مما يدّل على ان هناك تداخلاً أمنياً مع منظمات الحزب قد حصل وكانت يومها لجنة بريطانية تضم: لبيد عباوي، عدنان الجلبي، عزيز عليّان (أو انه غادر الى العراق في تلك الفترة) وسعد علي (رشح ضمن العشرة الى اللجنة المركزية في المؤتمر الرابع، لكنه توفي في أواسط الخمسينات) وكان المسؤول د.سعيد اسطيفان .
ووجدت الاشارة الخاصة بالطائفية التي وردت في تعقيب الرفيق باقر ابراهيم لا تعنيني فضلاً عن ان نبرتها منفعلة بما فيها الرد على خزندار حول " التأثر بأعلام البضاعة الامريكية- الصهيونية المستوردة حالياً، حول التقسيمات والتمايزات المفتعلة بين الشيعة والسنة...." والاشارة جاءت مبهمة لدرجة خلط الاوراق، فالقارئ قد يتصور انها جاءت على لساني او انها تمثل موقفي، في حين أنني أعتبر كلام باقر ابراهيم بدون انفعال صحيحاً، فالطائفية لم تكن مطروحة في الحزب ولا اساس لها، ولا ادري ان صحّ موضوع الحوار الذي نقله خزندار عن ترشح الجواهري لرئاسة الجمهورية، والتحفظ الذي نقله على لسان عامر عبدالله في قراءته لمواقف القوى الدولية والاقليمية، اي انه ليس رأي عامر عبدالله حتى وإن صحّ الاقتباس ، فهو استقراء للواقع كما كان يراه.

2-حول ثوابت النضال الوطني العراقي!!

يكرر الرفيق باقر ابراهيم في اكثر من موقع الحديث عن الردة والخيانة والارتهانات لاجهزة المخابرات وخيانة الوطن مع الاجنبي وذلك في الحديث عن قيادة الحزب الشيوعي، ثم يتطرق لدور اليسار الشيوعي الجديد، مع وراثة المجد القديم، وان هذا اليسار في قلب الحركة الوطنية وحركة المقاومة.

ويحمّل باقر ابراهيم النقد الذي عرضته لكتاب خزندار، ما لم أقله وما لم أرغب فيه حين يقول " لكن الكاتب حين يدين مسيرة تيار معين من تيارات قوى التغيير أي الحزب الشيوعي العراقي..." ويذهب أكثر من ذلك ليعتبر الكلام يشمل جميع تيارات التحرير والتغيير دون استثناء، ولا اريد القول ان هذا الامر قد يُراد به نوع من الاستعداء، ولكنني سأتجاوز هذه المسألة، فقد اعتبر باقر في مقدمته لكتاب خزندار ان الحركة الصدرية ضمن التيارات السياسية العقلانية، ولا ادري متى وكيف يمكن تقييم ذلك؟..الاّ إذا اعتمدنا الشعارات الصخّابة أحياناً بديلاً عن الواقع، فلكي يتحقق برنامج للتحرير والتغيير، عليك بتسمية القوى التي لها مصلحة حقيقية بالتحرير والتغيير، لا من خلال شعارات عامة أو أجندات خاصة، بل بالموقف الحقيقي والعملي من إنهاء الاحتلال: عنفاً أو سلماً وبكل الوسائل الممكنة وبالموقف من الحداثة وحقوق المرأة والتقدم الاجتماعي وحقوق الاقليات والموقف من الاستبداد والدكتاتورية وغير ذلك. ولعل أسهل السبل هو في رفع أكثر الشعارات رنيناً وثورية وأكثر المطالب راديكالية ورومانسية وأكثر الأهداف مبدئية وتعبيراً، لكن الواقع سيكون في مكان آخر وللسياسة أحكامها وهي التي قال عنها شيخ الشيوعيين لينين " فن الممكن"، وهي تعبير عن توازن القوى.
لعل قراءة باقر ابراهيم كانت قراءة ارادوية للنص، فما هو نقدٌ للكتاب يحسبه باقر ابراهيم ادانة للتاريخ، ثم يمضي بإسقاطاته بإرتياح واستسهال كبير، حيث يقول" وحين تتركز ادانته على حقب الماضي وليس الحاضر الواضح الردّة والخيانة (وهذا رأيه)، فإن مقبرته المليئة بالأزهار الميتة، التي ينعب فيها البوم ويعمّ الظلام اركانها وزواياها" ...الخ وهذه أيضاً قراءة مخطوءة للنص، فهذا هو تعليقي واستنتاجاتي على كتاب خزندار وليس رأيي وهذا هو الفارق في النظرة المسبقة أو الحساسية المفرطة ازاء النقد سواء الموقف من القضية الفلسطينية أو خط آب (عام 1964) او مواقف القيادة السابقة، فالامر يتعلق بمناقشة الكتاب، لكن حساسية باقر ابراهيم تبدو أكثر شدّة، فاذا اردت ان تكتب مقالاً في الجيولوجيا، فعليك إدانة قيادة الحزب الشيوعي الحالية، التي فرّطت بالثروة واذا تحدثت عن الطقس فعليك تسفيه قيادة الحزب الشيوعي، واذا تناولت الرياضة في العراق، فلا بدّ أن تعرّج لتنتقد الحزب وقيادته واهماله للرياضة والرياضيين، وربما لمساعدة قوات الاحتلال على كسبهم .
للاسف الشديد فإن هذه النظرة الذاتية، الناقمة، التنديدية تستحوذ على عقول الكثيرين، فنحن نتحدث عن تاريخ مضى ونناقشه، واذا لم نناقش الحاضر والمستقبل، فلسنا نريد التهرّب أو الزوغان ولكل حقل حقه، ومع ذلك هناك تقديرات مختلفة، والشيء بالشيء يُذكر فلعل حساسية بعض اخواننا في المعارضة سابقاً لا تختلف عن هذه المداخل الإقحامية، فاذا كنت تقف ضد الحصار أو تندد بضرب العراق أو ترفض التعويل على المشروع الاجنبي (الامريكي) للتغيير، فلاّ بدّ أنك تدافع عن النظام أو تكون متواطئاً معه، أو تعمل لصالحه، والاّ ينبغي عليك وانت تتحدث عن الجغرافية الاقتصادية أن تلغي صدام حسين، واذا كتبت عن البيئة فالخطوة المناسبة هي البدء بإدانة صدام حسين وحزب البعث، واذا بحثت في قضايا التكنولوجيا والصحة وربما الاستنساخ، فعليك ادانة الحكم الشمولي . وهذه الحساسية بالمقلوب حالياً، تظهر حين يكون عليك السكوت أو التسبيح بفضائل النظام السابق حتى اذا كنت تتحدث كباحث، والاّ فإنك مع الاحتلال أو مرتدّاً وقد تكون جاسوساً، الى غيره من أساليب الارهاب والابتزاز الفكري التي عفا عليها الزمن.
ان طريق التخوين ووصم الآخرين بالردة والخيانة " مسألة سهلة"، فإذا وقفت مع حقوق الشعب الكردي، فإنك تدافع عن الموساد الاسرائيلي في كردستان، ولكن ألم يتحالف الحزب مع قيادة البارزاني أيام الستينات حين كان للموساد في كردستان نفوذاً وربما مواقع، وهو ما كشفه أعضاء بارزون في الحركة الكردية أمثال د. محمود عثمان، إضافة الى ذلك كانت القيادة المركزية قد نشرت منذ أواخر عام 1967 أو مطلع العام 1968 معلومات مهمة عن علاقات تلك المرحلة مع جهات اسرائيلية وايرانية شاهنشاهية وأمريكية فيما بعد. هذا النشر شمل وجود" طواقم من المستشارين الاسرائيليين تستبدل كل ثلاثة أشهر ويترأسها بصورة دائمة عناصر الموساد والى جانبه ضابط في جيش الدفاع الاسرائيلي ومستشار فني، وحسبما هو منشور في اكثر من مصدر فان الملاّ مصطفى البارزاني زار اسرائيل في نيسان (ابريل) 1968 بترتيب من بدرخان، الذي كان مكلّفًا من اسرائيل للقيام ببعض المهمات السياسية الحساسة وحسب التقارير المنشورة تم استقبال البارزاني استقبالا رسمياً فخماً وأُنزل في بيت الضيافة الحكومي، وقام رئيس الموساد اللواء مائير عميت بتعريفه على يوفال كتمان رئيس شعبة الاستخبارات (كما يذكر كتاب الموساد في العراق ودول الجوار للمؤلف شلومو نكديمون).
كان راديو بغداد قد تحدث عن علاقة البارزاني باسرائيل منذ عام 1968 ناهيكم عن العلاقة بالسافاك الايراني، لكن حكومة بغداد عادت ووقعت اتفاقاً معه "بيان" 11 آذار (مارس) 1970 واعتبرته انجازاً تاريخياً (وهو بالفعل) وبعد الاختلاف حول كركوك وصيغة الحكم الذاتي والاحتكاكات الداخلية ومحاولة اغتيال البارزاني والضغوط التي مارستها الحكومة، إنفض التحالف البعثي-البارتي وعادت الحكومة ووصفت الحركة الكردية بـ "الجيب العميل" ونشرت معلومات عن اتصال ديفيد قمحي بالبارزاني، حيث اتى الى العراق عن طريق ايران واتفق الطرفان على التعاون، كما نشرت رسالة قالت انها من البارزاني الى ليفي اشكول رئيس حكومة اسرائيل يهنئه بذكرى قيام اسرائيل، وبقي قمحي فترة من الزمن في كردستان وارتدى الملابس الكردية وخالط البيشمركة. (وكان عزيز عقراوي وعبيدالله البارزاني) قد اشاعا ان للبارزاني مرافقين اسرائيليين ويتصلون به لاسلكيا.
وحسب هذا المصدر كانت طائرة خاصة قد هبطت في مطار اللد من طهران واجتمع الوفد الكردي مع زيلمان شوفال كما قابل موشي دايان، وكانت المقابلة سرّية لولا لقاء الوفد بمراسلي بعض الصحف الاسرائيلية. ويشير كتاب شلومو نكديمون المذكور اعلاه الى أن البارزاني بعث برسالة تعزية الى غولدا مائير بعد وفاة ليفي اشكول رئيس الوزراء السابق (شباط)1969.
وكتبت جريدة الثورة في مطلع 1973: مقابل مساعدة اسرائيل للاكراد، فالاكراد يساعدون اليهود على الفرار الى اسرائيل. واذا كان كل ذلك صحيحاً فلماذا أقدمت الحكومة العراقية على المفاوضات خلال الثمانينات مع الحركة الكردية، وكادت تصل الى اتفاقات وبخاصة مع حزب الاتحاد الوطني الكردستاني(بقيادة جلال الطالباني)، كما دخلت في مفاوضات مع الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة مسعود البارزاني والاتحاد الوطني بقيادة جلال الطالباني بعد فشل غزو القوات العراقية الى الكويت عام 1990 وحرب قوات التحالف ضد العراق عام 1991، وكل هذا التاريخ أمامها ولم يحدث التوافق بسبب ضغوط خارجية على الحركة الكردية كما قيل، ثم عادت الحكومة وانتصرت للبارزاني (مسعود) ضد جلال الطالباني، وارسلت قوات عراقية " لتحرير " اربيل وتسليمها الى البارزاني في 31 آب (أغسطس) 1996، في حين كانت المنطقة الكردية تقع تحت النفوذ الاجنبي " كملاذ آمن.." كما يقال!
لكن الحكومة كانت تتضايق من أي رأي يدعم القضية الكردية وليس القيادات الكردية بل ويمكنها اتهامه بشتى التهم، رغم ان علاقاتها كانت مستمرة مع الحركة الكردية حتى عشية العدوان على العراق واحتلاله، وبغض النظر عن التبريرات، فان حزب البعث الحاكم عاد الى اتهام الحركة الكردية بشتى التهم، ولا ندري اي من الآراء كان صحيحاً!!؟ وكيف يتم التعامل السياسي وتبرير ذلك لاحقاً!!

الامر بالنسبة للشيوعيين مختلف قليلاً، فنحن " حلفاء تاريخيون "كما يقال منذ تاسيس الحزب الديمقراطي الكردستاني عام 1946 رغم المنافسات والاحتكاكات، ووقفنا ايام قاسم موقفاً وسطاً حين رفعنا شعار " السلم في كردستان" ثم احتوى البارزاني مواقفنا وبخاصة بعد العام 1963، وشاركنا كفريق في الستينات مع البشمركة الكردية، وبخاصة في معركة هندرين عام 1966، وشجعنا على المفاوضات بين الحكومة والحركة الكردية عام 1968-1970، واختلف الأمر حين أعلن " تحالف الحزبين الطليعيين – البعث والبارتي" حين شنت الحكومة حملة ضدنا وكنّا كبش فداء بيان 11 آذار (مارس) 1970، لكننا كنّا الى حدود غير قليلة منسجمون مع مواقفنا وتوجهاتنا، وقبيل عقد الجبهة بيننا وبين حزب البعث عام 1973 بدأت علاقتنا بالحركة الكردية تسوء لدرجة احتجازهم عدداً من الشيوعيين وتصفيتهم من قبل عيسى سوار كما قيل في وقتها خلال عودتهم من الدراسة عن طريق غير رسمي (لاحظ اننا حتى عشية وخلال التحالف، كنّا نضطر الى العمل السري، بل عبور الحدود بطريقة غير شرعية).
ثم اتخذنا موقفاً ضد الحركة الكردية بانحيازنا الى الحكومة وسكتنا عن قمع الشعب الكردي وليس الحركة الكردية عام 1974 وما بعدها، خصوصاً خلال تعرّضه الى حملة تنكيل شديدة، ناهيكم تغييرات ديموغرافية وضغوط سياسية، حتى وان كانت تحت يافطة " الحكم الذاتي"، لكننا عدنا الى التحالف مع الحركة الكردية بعد انتقالنا الى المعارضة، بل اننا عشنا قريبين من الفصائل الكردية ضمن فصائلنا للانصار الشيوعيين..
كنّا الرفيق باقر ابراهيم وعائلته، وعبد الرزاق الصافي ومهدي عبد الكريم وأنا نعيش بغرفتين متجاورتين في بشتاشان وقبلها في منطقة ناوزنك (نوكان) قبل اضطرارنا الى الرحيل بسبب اقتراب القوات الايرانية من مواقعنا، ولم يكن أحد يذكر عن وجود إرتباطات مشبوهة بالحركة الكردية (حلفاؤنا)، وبغض النظر عن مواقف قيادة الحركة الكردية من الاحتلال وتعاونها مع القوات المحتلة، فإن العلاقة بالحركة الكردية شيء والموقف من قضية الشعب الكردي شيء آخر، والحركة الكردية ظلّت في كل الاوقات تحتفظ بهامش خاص بها . ولذلك فإن تغليب ما هو ظرفي وطارئ على حساب ما هو مبدئي وسياسي بعيد المدى سيلحق ضرراً بالعلاقات العربية- الكردية، وبروح التآخي العربي- الكردي، ومهما قيل عن علاقات وارتباطات، فستبقى الحركة الوطنية العراقية وبخاصة الجزء العربي منها تتعامل مع الحركة الكردية وقيادتها باعتبارها ممثلة للشعب الكردي، رغم الملاحظات والتحفظات.
ولم تخفِ قيادة الحركة الكردية آنذاك علاقاتها مع ايران، التي كانت في حرب مستمرة مع العراق، إنتقلت الى الاراضي العراقية بعد العام 1983، وكنّا نرفع السلاح بوجه الحكومة في تلك الفترة، فهل يعتبر هذا خيانة أو ثلماً للوطنية، مثلما: هل يعتبر ضرب الحركة الوطنية بتياراتها القومية الناصرية والماركسية والشيوعية والاسلامية والكردية وغيرها ومحاولة تصفيتها في العراق من جانب حزب البعث الحاكم وفرض نمط حكم شمولي خدمة للامبريالية.
الاجتهادات السياسية شيء حتى وإن كانت خاطئة، والخيانة الوطنية والرّدة شيء آخر، ومثل هذا الموقف كان لدينا من حزب البعث، فقد اعتبرناه حزباً وطنياً وهو كذلك وطرف في جبهة الاتحاد الوطني عام 1957، ثم متآمراً وخائناً عام 1959ً ثم دموياً وارهابياً عام 1963 وجاء بقطار امريكي، ثم وطنياً قاد انقلابا عسكرياً، ثم اعتبرنا ذلك الانقلاب في 17 تموز (يوليو) 1968 تغييراً ثورياً، ثم ثورة من أعظم ثورات العالم الثالث، وعدنا واعتبرناه حزبا فاشياً او ان الحكم في العراق حكماً دكتاتورياً بأساليب فاشية، قاد المغامرات وورط البلاد والعباد وأوصلها الى ما وصلت اليه بسبب سياساته القاصرة، حتى أوقعها تحت الاحتلال بعد حصار دولي جائروحروب خارجية وسياسات قمعية.
البعض أخذ يندم على هذا التخبط مثلما يندم بعض البعثيين على قمعهم للحزب الشيوعي، وهو أمرٌ بحاجة الى مراجعات على مستوى الفكر والسياسة مع جميع الاطراف. أقصد من ذلك هناك فروقاً بين التقديرات السياسية الخاطئة وبين تهم الخيانة والعمالة والرّدة ، التي تتكرر كثيراً في وصم مواقف الشيوعيين ، ذلك ان استعراض الموقف من الحركة الكردية والحركة الشيوعية والحركة القومية بما فيها البعث ويمكن ان نضيف تقييمات الحركة الاسلامية بشقيها يمكن أن توصلنا الى استنتاجات أخرى.
* * *

لكن " التحالف" الشيوعي- البارتي ظلّ قائماً، ألم يكن باقر ابراهيم مسؤولاً وقتها، ثم سارت رياح قيادة الحزب باتجاه آخر حين حارب الحزب لصالح الحكومة وحزب البعث ضد قيادة الحركة الكردية وبخاصة في العام 1974، باعتبارها " جيباً عميلاً " ومشبوهاً، وعندما انقلبت الامور وانفضّ عقد التحالف مع حزب البعث، عادت قيادة الحزب الى قواعدها " سالمةًً "، وعادت الى تحالفها القديم مع حدك " الحزب الديمقراطي الكردستاني" و" أوك" الاتحاد الوطني الكردستاني، ولأجل الاول افتتحنا جبهة جديدة (جود) بعد جبهة جوقد، ودخلنا معارك بشتاشان مع حدك ضد أوك، ألم تكن قيادة حدك في ايران. لم أسمع أي نقد يذكر بشأن علاقات هذه القوى، سوى بعض ردود الأفعال التي كانت سرعان ما تتبخر كما حصل بعد مجزرة بشتاشان التي راح ضحيتها عشرات من الشيوعيين على أيدي مسلحي (أوك) عام 1983.
أنا شخصياً لا اعتبر الحزب الشيوعي خائناً أو مرتداً، ولم يخطر ببالي يوماً أن أدينه أو أدين تاريخه رغم خلافاتي الشديدة مع قيادته وربما عدم قناعاتي منذ مدة طويلة بسياساته وتوجهاته حتى عندما كنت ناشطاً في صفوفه. وأتحدث هنا كناقد بعيداً عن الانحياز والتأييد أو مشاعر السخط والكراهية، وبعيداً عن التشفّي أو التبرير، فالحزب أحد أهم أركان الحركة الوطنية في العراق، كان وما زال، رغم الاخطاء الكبيرة والفادحة، التي وقع فيها، سواءاً سياساته المتأرجحة إزاء الحكومات المختلفة، أو سياساته التحالفية في السابق والحاضر، او تكتيكاته إزاء أساليب الكفاح، أو علاقاته الداخلية التسلطية وغير الديمقراطية، أو ضعف وهزال قياداته وملاكاته، ناهيكم عن هشاشة مستوى التفكير والاداء يظل حزباً وطنياً يمثل قيماً ومفاهيماً تقدمية في المجتمع، والاختلاف هو في دور قياداته واخطائها وارتكاباتها، لكن ذلك شيء والوطنية شيء آخر.
وأعتبر موقف القيادة الحالي خاطئاً ولم يكن لها أي مبرر للانخراط بمجلس الحكم الانتقالي والحكومات التي أعقبته، وكذلك في التحالف مع كتلة علاوي، وكان الأجدر بها التمسك بمواقفها حيث كانت قد أعلنت عشية الحرب على العراق رفض الحرب وتنديده بالخيار العسكري، حتى وإن أدى الى اسقاط النظام، ورفضه للحلول الخارجية وان كان هذا الرفض أحيانا بطريقة هلامية، أو باهتة أو غير حازمة، بل حمّال أوجه أحياناً.
وكنت قد كتبت رسالة عشية العدوان على العراق الى الامين العام للحزب الرفيق حميد مجيد موسى، بخصوص تعزيز مواقف الحزب الشيوعي، سواءاً ما هو صائب منها أو بشأن تصويب ما هو خاطئ وضار وغير مبدئي. ولعل القارئ يعلم أو لا يعلم أن مشاركة الحزب كانت بعد ضغوط كردية ( لم يستجب اليها آخرون) وضغوط أخرى حزبية من قيادات قديمة ما تزال متحكمّة بقيادة الحزب، إضافة الى حالة التماهي بقيادة حميد مجيد موسى مع قوى " المعارضة" بحيث ضاع لون الحزب المستقل، فضلاً عن الضعف الذي تعاني منه القيادة على المستوى الشخصي أو النظري التأهيلي.
كنت أتمنى ان تؤلف قيادة الحزب الشيوعي قائمة مستقلة حتى وإن لم تحصل على مقعد واحد، وأن تقول برنامجها الصريح والواضح بأنها ضد الاحتلال وتدعو للانسحاب واستعادة السيادة والاستقلال (الذي تعبّر عنه بطريقة مخففة) وتدعم القوى الممانعة والرافضة وتنشر برنامجها على أوسع نطاق بأن تقول نحن مع الحداثة، مع مساواة المرأة بالرجل، مع حل مشكلة القوميات والاقليات الدينية وتأمين المساواة والمواطنة الكاملة والحريات العامة والخاصة واحترام حقوق الانسان، وانها ضد الطائفية وضد الميليشيات والمحاصصة (تقولها من باب رفع العتب )، ومع تعزيز وتعميق دور الثقافة في المجتمع ومع برنامج تقدمي للتعليم ومطالب تهم عموم الشعب بشأن الصحة والعمل. (يخشى الحزب استفزاز الآخرين ويحاول استرضاء القوى المتنفذة وهو ما يفعله من ينتقدون الحزب وقيادته أيضاً مع قوى ليست في السلطة الآن).
ومع أنها اخطأت واعتادت على التعويل السياسي والتبعية، سواءاً أيام قاسم أو محاولة الاقتراب من الاتحاد الاشتراكي أو أيام البعث أو في المعارضة، الاّ أنني أربأ بنفسي عن اتهام الحزب الشيوعي وقيادته بالخيانة او الردّة، وأعتبر مواقفها خاطئة وغير مبررة وتصّب في خدمة المحتل وتتعارض مع منظومة القيم والمبادئ التي تدعو اليها، وأدعوها لإعادة النظر بها وبمجمل سياستها ولا اعتقد أن احداً من الوطنيين والماركسيين سوف لا يفرح في استعادة الحزب الشيوعي دوره ومكانته الاّ أولئك الحاقدين. كما ليس بإمكان أحد منع الحزب الشيوعي ان عادت قيادته الى انتهاج سياسة صحيحة والى الالتحام بصفوف الشعب والتعبير عن تطلعاته، من أن يسهم بقسطه في النضال الوطني المنشود، وهذا ما هو مشهود له.
* * *
أراد الرفيق باقر ابراهيم أن أقول ما لم أقله: فقد جاء على لسانه هل يراد للاتهامات بالارتهان لسلطة النظام السابق، حد قبض رواتب قادة الحزب منها ( لم يأتِ الأمر على لساني ولست ممن يكيلون الاتهامات حتى في ذروة الخلافات) واذا كان الامر قد ورد على لسان خزندار فانه قصد بالتحديد الرفيق عزيز محمد، لكنه عاد وصحح الامر مزيلاً الالتباس بقوله ان عزيز محمد لم يكن يتصرف بالشك وانه كان يرسله الى ميزانية الحزب، وقد يكون الذهن انصرف الى رواتب الموظفين في الجبهة الوطنية أو في المنظمات المهنية المشتركة بين الحزب الحاكم وقوى اخرى مثل مجلس السلم او نقابة الصحفيين او غيرها) ويستنتج معلقاً عليّ، ما لم أقله وعلى نحو غريب يتساءل " هل يراد من ذلك خلط الاوراق وتشويش الوقائع عن التعاملات والارتهانات المفضوحة الراهنة؟" وهو أمر لم يكن موضوعاً للمناقشة.

3- القضية الفلسطينية والحزب الشيوعي
يقول باقر ابراهيم : لاحظت ان د.عبدالحسين شعبان كان شديد الاهتمام بأن يعيد للحياة وللإٌثارة البارزة، قضية تجاوزها الزمن، كالتنديد بمواقف الاتحاد السوفييتي والدول الاشتراكية من قرار تقسيم فلسطين"، ثم يضيف: انه في خضم المزايدات.. نراه يطلع علينا بتأييده لإدانة القيادة المركزية " الشيوعية " عام 1967 لذلك الموقف (المقصود الموقف السوفييتي). وكم يبدو الرفيق باقر متضايقاً حين يقول " ان اللجاجة في إثارة هذا الموضوع التاريخي، تقف وراءه الآن الرغبة في التعتيم على المواقف الشيوعية والاشتراكية، دولاً وأحزاباً وشخصيات، من نصرة قضية الشعب العربي الفلسطينين، ليس بالامس فقط، بل اليوم وغداً "!!
أحسب أن الرفيق باقر يعرف مواقفي على أقل تقدير أو بعضها وذلك دون ادعاء وعلى الاقل كنت اغني خارج السرب بشأن القضية الفلسطينية، ففي عام 1967 وبعد عدوان حزيران (يونيو) تطوّعت للعمل الفدائي الفلسطيني مثل غيري ومن أبناء جيلي شيوعيين وقوميين وبعثيين وأكراد وماركسيين منظمين وغير منظمين، مرتبطين بالحزب أو غير مرتبطين، وكانت لديّ علاقات خاصة ومتميزة مع المنظمات الفلسطينية في العراق وسعدت وتشرفت بمعرفة الكثيرين من قياداتها التاريخية وكنت أشعر ان موقف الحزب والحركة الشيوعية بحاجة الى مراجعة وان موقف الاتحاد السوفييتي كان بحاجة الى نقد وتخطئة، وبخاصة من قرار التقسيم وما بعده.
قد أكون من الشيوعيين القلائل في العراق والعالم العربي، من ألّف 7 كتب عن القضية الفلسطينية وقضايا الصهيونية والصراع العربي- الاسرائيلي، لعل آخرها يوم تخلّى الكثيرون وركبوا الموجة كان عام 2001 بعنوان " المدينة المفتوحة- مقاربات حقوقية حول القدس والعنصرية"، إضافة الى أنني نشرت نحو 45 بحثاً فضلاً عن عشرات المقالات في صحف ومجلات ومطبوعات متعددة.
ومنذ العام 1985 كنت أحد مؤسسي " اللجنة العربية لدعم قرار الامم المتحدة 3379، " التي أصبح إسمها " اللجنة العربية لمناهضة الصهيونية والعنصرية" وفي أول تشكيل كنت أمينها العام 1986-1989 ثم أصبحت عضواً في أمانتها العامة بعد إعادة تركيبها.
وكنت منذ فترة ليست بالقصيرة قد توصلت الى آراء واستنتاجات حول أخطاء بل خطايا القيادة الستالينية ومساوماتها على حساب الشعب العربي الفلسطيني، وأشرت الى ذلك الخطأ الفكري والسياسي وانعكاسه على الاحزاب الشيوعية (العربية)، التي ظلّت قياداتها حائرة، وكان وصول رسالة من باريس وقيام " الكادر القيادي اليهودي" بعد اعتقال فهد، بتوزيعها باعتبارها مؤيدة وربما "ممهورة" بإسم الحزب الشيوعي الفرنسي، وفيما بعد طلعت علينا صحيفة اللومانتيه بمانشيت عريض مهنئة العالم بقيام اسرائيل عام 1948 في 15 ايار (مايو)، وكان من نقل الرسالة الى العراق يوسف اسماعيل، لكن فهد الذي كان في السجن لم يستطع ان يبدي رأياً، بل ان رأيه قبل التقسيم كان ضد فكرة التقسيم وضد قيام كيان آخر في فلسطين على أساس ديني بالدعوة الى دولة ديمقراطية يتعايش فيها العرب واليهود، لكنه فضّل عدم اتخاذ قرار حاسم بهذا الشأن وانما بالتشاور مع الحزب الشيوعي السوري-اللبناني، الذي كان له دور الريادة في العالم العربي آنذاك، وكان موقف الحزب الشيوعي السوري –اللبناني بقيادة خالد بكداش مع قرار التقسيم ومع موقف الاتحاد السوفياتي.
عندما أناقش الأمر باعتباره تاريخاً وانا باحث، لا اريد أن اروّج لشعار، ولا أتعامل بالمزاودة بالشعارات، التي أصبحت اليوم البضاعة السائدة كما يقول باقر ابراهيم وأنا أتفق معه أيضاً، فالمزاودات من كل حدب وصوب لا تغني ولا تسمن جوع. كنت منذ العام 1985 قد القيت محاضرة في دمشق (مركز الدراسات الفلسطينية) ونشرتها على حلقتين صحيفة الحقيقة في حينها تحت عنوان: قراءة الموقف السوفييتي من قرار التقسيم: ما بين الآيديولوجي السياسي، أوضحت فيها موقفي الفكري طبقاً " للماركسية" ذاتها بخطأ هذا الموقف نظرياً وبمساومة سياسية بعد اتفاقية يالطا وما تبعها، لدرجة يستغرب المرء لماذا اعترف الاتحاد السوفييتي بإسرائيل حتى قبل الولايات المتحدة؟
بتقديري أن الامر يعود الى تأثيرات صهيونية على قيادة ستالين وعلى جهاز وزارة الخارجية والى قصور نظر والى تحليل ساذج وسطحي لظاهرة الصهيونية، وهو الموقف الذي دفع زكي خيري الى مساجلته الشهيرة من داخل السجن رداً على عزيز شريف وموقفه المشرف من الصهيونية وبالضد من الكيان الاسرائيلي، فقد اعتبر زكي خيري دولة اسرائيل تقدمية قياساً للدول العربية، ففيها حزب شيوعي علني ونقابات وشيء من الحريات، في حين ترزح البلدان العربية تحت نير انظمة اقطاعية او شبه اقطاعية ممالئة للغرب، وكان يمكن لاسرائيل حسب وجهة نظره ان تتقدم وبالتالي تشكل نقطة انطلاق لدول المنطقة.. هذا المنطق السطحي والقاصر هو الذي كان " سائداً " وكتب بهاء الدين نوري في مذكراته معترفاً بذلك وبالمظاهرات التي كانت تتصدرها شعارات " العرب اخوان اليهود وعدوّهما الصهيونية والامبريالية" في حين كانت الصهيونية تقوم بقضم الاراضي وطرد السكان العرب من ديارهم وفيما بعد أيضا برفضها القرارات الدولية وبخاصة القرار 194 حول حق العودة، ولعل مثل هذه الشعارات كانت مستفزّة للمشاعر الشعبية على أقل تقدير. وبقدر شعوري بالنقمة والغيظ من الارهاب الستاليني، فقد كنت اشعر بالاشمئزاز والسخط على موقفه اللاماركسي ازاء الامة العربية وبشكل خاص من القضية الفلسطينية، ولعل هذا كان الدافع في أن تكبر القضية معي، ومع ازدياد وعيي ونضج تفكيري، وان احتاج الامر بضع سنوات ليست بالقليلة، لكي أجاهر بوجهة نظري.
مرّة أخرى أقول أن الموضوع ليس من باب المزاودة أو من باب الشعارات النارية والجملة الثورية التي يبرع اليوم أصحابها باسم " الوطنية" أو الثورية او بالمقابل بإسم الواقعية أو الليبرالية أو التجديد أو غير ذلك، الامر له علاقة بالبحث ومراجعة التجربة في سياقها التاريخي وليس لإتخاذ موقف راهن، وهذا هو الفرق بين الداعية السياسي والباحث الاكاديمي، أو من يريد مناقشة القضايا السياسية من زواياها الفكرية، وبين من يناقشها باعتبارها شعارات لأغراض تعبوية. وحتى مواقف القيادة المركزية التي لم أكن في حينها معها عدت لقراءتها مجدداً مقيّماً 4 اطروحات اساسية خاضعة لسياقها التاريخي:
الاولى- عندما طرحت ان مهمة الحزب الثوري هو استلام السلطة.
الثانية- تحديد أساليب الكفاح، محددة في حينها الجانب العنفي.
الثالثة- الاستقلالية عن الحركة الشيوعية، وليس الذيلية لموسكو، كما ليس العداء لها.
الرابعة- اعادة النظر بالقضية القومية سواء الفلسطينية أو الموقف من الوحدة العربية. وقلت في مراجعة تجربتي في ديوان الكوفة/لندن (منشورة في كراس بعنوان" بعيداً عن أعين الرقيب" – محطات بين الثقافة والسياسة، دار الكنوز الادبية، بيروت، شباط(فبراير) 1994، لكن هذه العناوين الصحيحة، والتي حركت الراكد من الامور مثل دخول القوات السوفييتية الى براغ للقضاء على ربيعها: نجدة أم أحتلال !؟ سارت بإتجاه آخر حين تحوّل الشعار الصحيح الى مجرد عمليات تطرف وعنف غير مدروسة ومنفلتة، والاستقلالية اتجهت نحو ذيلية جديدة للصين ومن ثم الى ألبانيا فيما بعد، والقضية الفلسطينية والدراسات المعمقة لعام 1971، رغم بعض الملاحظات عليها انتهت الى مجرد شعارات ومزاودات .
أتذكر عندما نشرت البحث حول قرار التقسيم ومواقف الاتحاد السوفييتي، أجرت صحيفة الثورة السورية بعده بثلاث أو أربع أسابيع مقابلة مع الباحث السوفييتي يفسييف حول مواقف الاتحاد السوفييتي فأتى على ذكر بعض الآراء، التي كنت قد ذكرتها او ذكرت بعضها، منتقداً الموقف السوفييتي ، فقال بعض المغرضين آنذاك ، هذه ليست آراؤه، فربما تكون آراء يفسييف، وذهب البعض اكثر من ذلك الى ان اتجاهاً جديداً لدى السوفييت بنقد سياسة ستالين من القضية الفلسطينية بدأ يعبّر عنها بعض الاكاديميين وبخاصة في عهد اندروبوف خلال بدايات البريسترويكا، وهي التي دفعت شعبان الى هذا النقد الشديد بعد فترة أقصي يفسييف وسُحبت شهادته من اكاديمية العلوم السوفياتيية، ثم اغتيل في ظرف غامض قرب موسكو 1991، وكنت قد رثيته في حينها، وذكّرت الاخ الكبير جورج حبش والاخ الصديق لتسير قبعه، بانني اقترحت دعوته الى المنطقة لزيارة المخيمات ولتنظيم علاقة صداقة مستمرة معه ومع أمثاله.
أية لجاجة وأي تعتيم إذاً، وتبقى المواقف في حينها بكل ما تحمله من خسائر سواءاً أصابت أم أخطأت ودون مزاودات هي الحكم. لكن هذا لا يعني ان الاتحاد السوفييتي لم يقف بعد ذلك وبخاصة منذ العام 1956 الى صالح العرب وبخاصة انذار بولغانين الشهير وخلال عدوان 5 حزيران (يونيو) عام 1967، رغم الملاحظات بشأنه، لكنه وقف بحزم مع قيادة عبدالناصر والقيادة السورية بعد ذلك وبخاصة خلال حرب الاستنزاف 1969-1970، كما قام بدعم القضية الفلسطينية في الامم المتحدة. لكن موقفه من فكرة حق تقرير المصير ظلّت ناقصة، وكان يفضل بدلاً عنها فكرة " ازالة اثار العدوان"، ولعل هذه المسألة ظلت غائبة من خطابه وربما من بعض خطابات الاحزاب الشيوعية العربية، حتى تم استعادتها بعد العام 1967، ولم يقتنع الاتحاد السوفييتي بها الاّ في العام 1969، ويقول عامر عبدالله في مقابلة معي (هامش ذكرته في مجلة الهدف، العدد السنوي، 1985 ) انه هو الذي صاغ فكرة حق تقرير المصير وأقنع السوفييت بذلك، وبالتالي الحركة الشيوعية العالمية، اما زكي خيري فينسب لنفسه فكرة حق تقرير المصير وذلك في مذكراته.
ويتساءل ابراهيم: ألا يرى من يحرصون على استنكار تلك المواقف ان روسيا واوربا الشرقية الاشتراكية، قد تحوّلت بعد أن ارتدت الى الشيوعية وعن الاشتراكية من نصرة قضية الشعب الفلسطيني الى اكثر قرباً من الكيان العدواني التوسعي لاسرائيل؟
ما علاقة هذا بالبحث التاريخي؟ ولكن لنناقش الأمر فاذا أردنا القول أن الارتداد حاصل، ولكن ما علاقة ذلك بموقفي فقد كنت قد حذّرت ربما من وقت مبكر من الاستيطان الصهيوني الجديد خلال فترة الهجرة الواسعة من الاتحاد السوفيياتي، وانتقدت الامر علناً في كتابات ومحاضرات (وكان الكثيرون يصمتون بل لا يتجرأون على ذكر اسم الاتحاد السوفييتي بأي نقد وكأنه مساس بالمقدسات)، والاكثر من ذلك تحدثت في مقابلة مطولة لصحيفة أنوال المغربية 1990 مع تأييدي لفكرة البريسترويكا " اعادة البناء" والعلانية " الغلاسنوست"، وحذرت من صعود النشاط الصهيوني والدور الذي تقوم به الصهيونية في البلدان الاشتراكية. وفي ارشيفي العديد من الابحاث والدراسات المنشورة على هذا الصعيد.
لكن ذلك شيء وما حلّ بالعرب والفلسطينيين شيء آخر، لا الترحم على الماضي ولا لعنه كفيل باعادة الامور، نحن نستعرض تاريخاً، هل يراد اعادة الانظمة الشمولية، انه تباكي على انظمة ناوأت الديمقراطية وكبتت الحريات، حتى وان وفرت خبزاً وكساءً ومأوى وتعليماً وصحة (على نحو محدود وشحيح لمواطنيها)، لكن التجربة فشلت وانتهت الى طريق مسدود، ولا يمكن بل حتى لا يجوز المقارنة او استعادة الايام الخوالي، والعيش على الاطلال والذكريات.
ما الذي يجمع وما الذي يفرّق: الشعارات لا تجمع الاّ الذين يركضون وراءها وهي لا تفرق الاّ الذين يعيشون فيها ولها، الحياة أصبحت معقدة ومتداخلة ومتشابكة، فلا يمكننا أن نهتف في الشارع مثل أيام الخمسينات: عاشت الحرية ليتجمع الجمهور خلفنا، او ليسقط الاستعمار فتسير وراءنا تظاهرة.. حتى المواقف من الاحتلال ليست بالضرورة موحدة، فهناك من يقف ضد الاحتلال، لكنه مع الارهاب والعنف الاعمى والتكفير والطائفية، وهناك من يفرّق بين المدنيين والسكان العزّل وبين قوات الاحتلال. بل ان البعض يعتبر من يتحدث عن دور للامم المتحدة قد يكون خائناً أو متواطئاً، ناهيكم أن من يدعو للحلول السلمية من خلال مقاومة شعبية للمشروع الامريكي، تستفيد من العمل المسلح، مثلما يمكن للمقاومة المسلحة أن تستفيد من العمل السياسي والسلمي قد يسعى لاجهاض المقاومة أو النطق باسمها، فحتى حق الكلام ممنوع بالنسبة للبعض، ولعل هذاالنمط من التفكير هو الذي أوصلنا ما وصلنا اليه!..
ان ادراك مثل هذه القضايا بات عسيراً ومعقداً خصوصاً لاصحاب الشعارات الرنانة والثورية والتخوينية الجاهزة، وحتى هذا بحاجة الى بيان وتعريف، ولربما هو قدر مسلّم به من جانب البعض، وبخاصة لمن لا يريد ان يعترف بوجود حق في الاختلاف والتنوع والتعددية.
اما عن اليسار الجديد الذي برز للعيان والذي دلل بالاعمال على أصالته وجديته وحقيقة انه كان وما يزال جديراً بوراثة المجد القديم والقدرة على التصحيح والتجديد كما يقول باقر ابراهيم، فهذا مع خالص احترامي الشخصي والاخوي والصداقي، مجرد عبارات انشائية لا تقارب الواقع.. اين هو هذا اليسار الجديد الجدير بوراثة المجد القديم، والاكثر من ذلك كما يقول باقر ابراهيم وكأنه يتحدث عن أمريكا اللاتينية وليس العراق " وما يزال في قلب الحركة الوطنية العراقية وحركة المقاومة" ويضيف " وهذا التيار الشيوعي، القديم الجديد، الذي يضم الالوف من المكافحين داخل الوطن وخارجه، هو الذي صار للاسف هدفاً للتشويه المتعمّد وأحياناً المبتذل"!
قد يكون الامر صحيحاً أن مواقف بعض الشخصيات قد أصبحت عرضة للتشويه والاساءة من جانب أطراف مختلفة قسم منها من رفاق الامس والآخر من جماعات تسعى للشهرة من خلال التعريض بالبعض، أو قسم منها يستهدف كسب ود أعداء الأمس فيحاول تشويه من يأتي على نقد الماضي وبخاصة النظام السابق، وقسم أخر يعملون ضمن ماكنة دعائية واعلامية محكمة ومنظمة ووفقا لاجندة صهيونية- امريكية للـCIA، وهذه تشتغل عبر بعض العراقيين من الموّقعين على عقود خاصة مع البنتاغون أو ممن افتتحت لهم مراكز دراسات وابحاث وحملوا سريعا ألقاباً ونياشين، لكن الصحيح أيضا ان ما يسمى باليسار الشيوعي وهذا أفهمه من كلام الرفيق باقر مشتت ولا وجود لإطار يجمعه، ويتحرك فيه بعض المتعبين وبعضهم من انتقل الى الضفة الاخرى، وظل يتاجر بحجة الموقف الوطني، وقسم غير قليل منهم معزول ولا تجمعه علاقات مع العراقيين في بلدان المهجر واستطيع القول ان بعضهم لا علاقة له بالحياة الاّ من خلال الـ internet، ويتوّلد لديك احساس وأنت تقابل بعضهم انهم ينتمون الى الماضي ولا علاقة لهم بالحاضر او بالمستقبل، ناهيكم عن الشيوعية كفكرة تعني الحداثة والجمال والتحضر والاحساس بالعدالة والانتصار للحق وللمرأة والتقدم الاجتماعي ناهيكم عن الحرية الفضاء الارحب.
ان بضعة عشرات مشتتة، بينها ما صنع الحداد لا يجمعها جامع بخلق تيار في قلب الحركة الوطنية يحمل لواء المجد القديم ، علينا ان نكون واقعيين ولا نركض وراء السراب، فهذه هي الحقيقة المرّة! كان هناك، ثمت ارهاص ولا أقول أمل أن تتم مراجعة التجربة ونقدها في اواسط الثمانينات، وجرت محاولات عديدة، وضع الرفيق باقر ابراهيم نفسه بعيداً عنها، لانه كان " يريد العودة الى الحزب" "او يريد أن يموت على حد تعبيره وهو عضو في الحزب" ، لكن القيادة الرسمية لم تعطه حتى هذا الامل فقامت بفصله مع اربعة رفاق آخرين في العام 1989 وهم نوري عبد الرزاق، حسين سلطان، عدنان عباس وناصر عبود، وحتى بعد الاقدام على هذه الخطوة النكراء ظل باقر ابراهيم بعيداً عن عمل منظم وحاولت مجموعة المنبر ان تدعوه الى اجتماعات للتقارب مع بعض القياديين ومنهم عامر عبدالله، لكنه ظل يفضّل الصيغة التي اقترحها لنفسه، في حين فضّل عامر عبدالله الابقاء على شعرة معاوية مع قيادة الحزب فاتجه لمهاجمة معارضيه في حين كان يشجعهم لوقت قريب على التصعيد في نقدهم ضد القيادة وعدم الاكتفاء بالحدود التي رسموها.
وظل باقر ابراهيم على رأيه وتبددت المجاميع التي تأسست لمعارضة القيادة الرسمية وبالأخص المنبر الذي انفرط عقده بسبب اصرار بعض عناصره على العودة الى العراق، دون اجراء تغييرات او مراجعات من جانب الحزب الحاكم لسياساته ومناهجه وممارساته السلبية الخاطئة، بما فيها حروبه التي لم يكن لها أية مبررات وطنية مشروعة.
وقد إحتفظت برباطة الجأش وبمعايير الصداقة، التي ربطتني مع الرفيق ماجد عبد الرضا، الذي قرر العودة الى العراق، رغم اختلافنا الشديد وبخاصة قبل سفره ولم اذكره بكلمة واحدة لا من قريب ولا من بعيد تسيء له، في حين كان بعض من شجعه على العودة يسرّب بعض المعلومات السلبية عنه وينتقده ويحملّه المسؤولية في إنفراط المنبر، الذي ضم عدداً لا بأس به من المثقفين فضلاً عن عدد من الكوادر الحزبية، لكنه كان يعيش أمراضاً لا تختلف عن أمراض قيادة الحزب بما فيها التعويلية، والبيروقراطية والتأرجح وضعف ملاكاته، مع انه اتخذ بعض المواقف الصحيحة بشأن الحرب العراقية- الايرانية وإزاء الموقف من القضايا القومية العربية وأساليب الكفاح والتحالفات وغير ذلك.



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عام على حكومة المالكي
- القرآن والجواهري
- الاحتلال الأميركي والفساد والميليشيات تفتت العراق
- أزمة الماركسية هل هي واقع أم مجرد دعاية سوداء!!؟
- ما يحدث في العراق ارهاب منفلت من عقاله (الجزء الاول والثاني ...
- بن لادن مجرم وعار على العرب والاسلام
- الاحتفال التكريمي الخاص ب الشخصية العربية البحرينية الكبيرة ...
- ما يحدث في العراق ارهاب منفلت من عقاله
- الارهاب الدولي وحقوق الانسان : رؤية عربية
- الفلسطينيون في العراق: الحماية المفقودة
- من دفتر الذكريات - على هامش حركة حسن السريع
- السيستاني أو ولاية الفقيه غير المعلنة!
- الحديقة السوداء في محطّات شوكت خزندار - الشيوعية - !
- الحكم الصالح والتنمية المستدامة
- الحكم الصالح (الراشد) والتنمية المستدامة
- حكومة المالكي عاجزة عن حل الميليشيات ومهددة بالانهيار
- احتمالات الحرب الاهلية في العراق
- خيارات الرئيس بوش في العراق
- الائتلاف والاختلاف في ستراتيجيات وتاكتيكات المقاومة العربية! ...
- الازمات والنزاعات الاقليمية وأثرها على عملية التغيير والاصلا ...


المزيد.....




- تعرّف إلى قصة مضيفة الطيران التي أصبحت رئيسة الخطوط الجوية ا ...
- تركيا تعلن دعمها ترشيح مارك روته لمنصب أمين عام حلف الناتو
- محاكمة ضابط الماني سابق بتهمة التجسس لصالح روسيا
- عاصفة مطرية وغبارية تصل إلى سوريا وتسجيل أضرار في دمشق (صور) ...
- مصر.. الحكم على مرتضى منصور
- بلينكن: أمام -حماس- اقتراح سخي جدا من جانب إسرائيل وآمل أن ت ...
- جامعة كاليفورنيا تستدعي الشرطة لمنع الصدام بين معارضين للحرب ...
- كيف يستخدم القراصنة وجهك لارتكاب عمليات احتيال؟
- مظاهرة في مدريد تطالب رئيس الحكومة بالبقاء في منصبه
- الولايات المتحدة الأميركية.. احتجاجات تدعم القضية الفلسطينية ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - عبد الحسين شعبان - تعقيب على تعقيب باقر ابراهيم